لا تزال الأوضاع في
ميانمار ساخنة، ولا تزال الأحداث مفتوحة على كل السيناريوهات بخصوص الانقلاب العسكري، لذلك فإن السطور التالية ستبتعد عن الحدث وستتناول ثلاث ملاحظات على هامش
الانقلاب العسكري من زاوية عربية، ومصرية بالتحديد.
الملاحظة الأولى: التنازلات للعسكر لا تحمي من انقلاباتهم!
وصلت المستشارة
سوكي "سوتشي" للسلطة في ميانمار عام 2015 بعد نضال طويل، وكانت حصلت على دعم عالمي وعدة جوائز حقوقية دولية أهمها جائزة نوبل للسلام. ولكنها بعد وصولها للسلطة تخلت عن مبادئها، ودافعت بنفسها في المحافل العالمية عن التطهير العرقي ضد الأقليات وأهمها أقلية الروهينغيا المسلمة. واصلت سوتشي نهج المواءمات والتنازلات للعسكر، وكان آخرها المشاركة في انتخابات 2020 بالرغم من استثناء الأقليات العرقية مثل المسلمين والمسيحيين من حق الانتخاب، في خضوع أو توافق تام على الأقل مع العسكر وسياساتهم العنصرية.
رغم تماهي سوتشي مع العسكر في قضايا حقوق الأقليات، إلا أنها بالمقابل تعرضت للانقلاب العسكري صباح اليوم، واعتقلت مع سياسيين آخرين.
في الوقت الذي لا بد فيه من مواءمات مع مؤسسات الدولة العميقة وأهمها الجيش في المراحل الانتقالية، إلا أن هذه المواءمات يجب أن لا تكون على حساب المبادئ ولا على حساب الأطراف الأخرى في المعادلة السياسية
لا يمكن للتنازل عن المبادئ الإنسانية والسياسية للعسكر أن يحمي من الانقلابات، وفي الوقت الذي لا بد فيه من مواءمات مع مؤسسات الدولة العميقة وأهمها الجيش في المراحل الانتقالية، إلا أن هذه المواءمات يجب أن لا تكون على حساب المبادئ ولا على حساب الأطراف الأخرى في المعادلة السياسية.
في
مصر، حصلت مثل هذه المواءمات مع العسكر من طرفي المعادلة في القوى المدنية: الإخوان المسلمين والمعارضة المنضوية تحت "جبهة الإنقاذ" ومن وقف معها من شباب الثورة. سيقول الطرفان إنهما لم يتحالفا مع العسكر، أو أنه كان لهما أسبابهما وحساباتهما السياسية في ذلك الوقت، ولكن التاريخ لا يزال قريبا والحقائق لا تزال معروفة، وبعيدا عن هذا الجدل بتحميل المسؤوليات، فإن النتيجة هي أن العسكر انقلب على الرئيس مرسي رحمه الله ثم انقلب على مسار يونيو الذي تحالف معه لإسقاط رئيس منتخب.
باختصار: المواءمات مع العسكر ضد مبادئك وخصومك من المدنيين لن يحميك من الانقلاب العسكري.
الملاحظة الثانية: طريق التغيير السياسي طويل وشائك.
تناضل سوكي وحزبها ضد الحكم العسكري منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي (أكثر من 30 سنة)، وحقق هذا النضال إنجازات مرحلية عام 2015 حيث أجريت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد فاز فيها حزب سوتشي "الرابطة الوطنية
الديمقراطية"، وبدأت البلاد تشهد تحولا تدريجيا، ومع ذلك وجه الجيش اليوم ضربة قد تكون قاضية لهذا التحول.
في تونس أيضا لا يزال التحول الديمقراطي متعثرا، وفي مصر أنهى الانقلاب الدموي العسكري هذا التحول عام 2013، وفي اليمن أنهى انقلاب الحوثيين وتخلي السعودية عن اليمن في تلك المرحلة العملية الانتقالية التي جاءت نتيجة للثورة الشعبية. حتى في تركيا التي شهدت آخر انقلاب ناعم عام 1997عندما أجبر نجم الدين أربكان على الاستقالة من رئاسة الوزراء، كاد الانقلاب العسكري أن ينجح عام 2016 وينهي التحول الديمقراطي المستمر منذ أكثر من 15 سنة.
التحول الديمقراطي ليس سهلا، وأنه طريق شائك وطويل، وأن خسارة معركة في الصراع مع الاستبداد لا يعني نهاية الصراع معه
ا
لخلاصة هي أن التحول الديمقراطي ليس سهلا، وأنه طريق شائك وطويل، وأن خسارة معركة في الصراع مع الاستبداد لا يعني نهاية الصراع معه، وأن الإحباط هو الوحيد الكفيل بإنهاء آمال التحول الديمقراطي وليس الانقلابات العسكرية.
الملاحظة الثالثة: لا تنتظروا تغييرا من الغرب.
ثمة فرق جوهري بين
تعامل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية مع انقلاب ميانمار وبين تعاملها مع انقلاب السيسي على الرئيس مرسي. فقد نددت كل دول الغرب بالانقلاب في ميانمار، وكذلك فعلت الأمم المتحدة، وأعلن مصدر دبلوماسي أن اجتماعا عاجلا قد يعقد لمجلس الأمن لمناقشة الموضوع، وهددت واشنطن وعواصم غربية أخرى بعقوبات على الجيش إذا لم ينه الانقلاب. في الحالة المصرية كان الوضع مختلفا تماما، فلم تدن أي دولة غربية الانقلاب بشكل واضح،
واكتفت واشنطن بتعليق الدعم العسكري مؤقتا "لحين دراسة الموقف وفهم ما جرى".
لماذا اختلف الموقف في الحالتين؟ لن نقبل الوهم الذي استخدمه مؤيدو 30 يونيو لتبرير ذلك وادعاء أن ما جرى ليس انقلابا، لأن التعريف العلمي للانقلاب العسكري واضح ولا نحتاج لإعادة اختراع العجلة لنعرفه، ولكن الحقيقة أن هناك أسبابا سياسية لهذا الاختلاف، تحددها المصالح الأمريكية في المنطقة.
لن يدعم الغرب اليوم أو غدا أو بعد مئة عام التغيير الديمقراطي في الدول العربية، ولذلك فإن الرهان يجب أن يبقى دوما على الشعوب العربية ونخبها
مصر هي الدولة العربية الأهم، ومن الضروري لواشنطن أن تبقى في مدارها السياسي، وكذلك الأمر بالنسبة للاحتلال الصهيوني الذي يحدد موقفه في الغالب مواقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لم يكن الغرب سعيدا بنتيجة التحولات الديمقراطية في العالم العربي وفي مصر تحديدا، ولن يكون يوما سعيدا بها، لذلك فهو لن يدافع عنها ولن يناهض الانقلابات العسكرية فيها أبدا ما دامت قيادات الجيش ملتزمة بكامب ديفيد وبالمصالح الأمريكية في المنطقة.
الخلاصة: لن يدعم الغرب اليوم أو غدا أو بعد مئة عام التغيير الديمقراطي في الدول العربية، ولذلك فإن الرهان يجب أن يبقى دوما على الشعوب العربية ونخبها، لا على الغرب، وهي مناسبة للإشارة إلى أن الأوهام حول تغييرات حقيقية في عهد بايدن في هذا المجال، لا تنتمي لعالم السياسة، بل لعالم التمنيات، ولا تغني التمنيات عن الحق شيئا!
twitter.com/ferasabuhelal