هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: تدبير أزمات التحول الديمقراطي: مقاربة للحراك العربي في ضوء التجارب الدولية"،
المؤلف: إدريس لكريني
الناشر: المطبعة الوراقة الوطنية بمراكش بدعم من مؤسسة هانس زايدل
الطبعة: 2021
عدد الصفحات:280
لا يزال التحول الديمقراطي في العالم العربي موضوع تساؤل كبير، سواء في شرعية وجوده وإمكان الحديث عن موجة جديدة له في العالم العربي، أو من حيث الشروط والديناميات التي يعرفها، أو الوضع الذي انتهى إليه، وحجم المعاكسات التي تعرضت له.
ولأن دراسة التحولات الديمقراطية تتم في الغالب ضمن مقاربات نظرية حققت تراكما كبيرا في دراسة التجارب والموجات، وفي رسم القواعد المطردة المفسرة له، فإن دراسة تحولات العالم العربي الديمقراطية في ضوء هذه المقاربات وضمن مرجعيتها، يكتنفه الكثير من الالتباس، مما جعل عالما كبيرا من علماء السياسية مثل لاري دايموند يكتب مقالا مشهورا في الفورين أفيرز، يقدم فيه توصيفا مبكرا للحراك العربي، باستعمال لغة الاستفهام، وهل يتعلق الأمر بموجة رابعة أم بانطلاقة خاطئة؟
كتاب الدكتور إدريس لكريني، مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، "تدبير أزمات التحول الديمقراطي: مقاربة للحراك العربي في ضوء التجارب الدولية"، يخوض هذا التمرين لكن ليس فقط من زاوية تحكيم مرجعية التجارب الدولية في دراسة التحولات الديمقراطية في العالم العربي، ولكن أيضا ـ وهذا هو المهم ـ من زاوية مقترب تدبير الأزمات، فليس المقصود من الكتاب تقرير الأدبيات المدرسية أو الأكاديمية حول تجارب الانتقال الديمقراطي وموجاته الثلاث، والقواعد التفسيرية له، والعوائق والتحديات المطردة في هذه التجارب، فهذا وإن أخذ قسطا وافرا في الكتاب، إلا أن الأهم فيه هو دراسة الحراك العربي، وحجم التحديات التي واجهها، ومحاولة دراستها ضمن الأقاليم الأكاديمية التي يوفرها التراكم المعرفي في دراسة التحولات الديمقراطية، والتوقف بشكل مركزي على أزمات التعثر التي عرفتها تجارب الانتقال إلى الديمقراطية كل قطر على حدة، وحالة عدم اكتمال الديمقراطية أو عدم نضجها في العالم العربي، والمخاض الذي لا يزال إلى اليوم قيد التفاعل والامتداد لكسب معركة الانتقال إلى الديمقراطية، وأشكال إدارة الأزمات في كل هذه التجارب.
في مقاصد الكتاب المركزية
يكشف المؤلف عن الانشغالات الأكاديمية التي بررت صدور هذا العمل، فالقصد ليس فقط معرفيا يستهدف التعرف على ديناميات التحول الديمقراطي في العالم العربي وقواعده، وإنما يتعدى ذلك لما هو بيداغوجي، يتوخى تأمين هذا التحول، وبحث المداخل الممكنة لتحقيق هذا الهدف، وذلك وفاء منه لمقترب تدبير الأزمات، الذي لا يعنى فقط بتوصيف الأزمات وتحديد أشكالها وطبيعتها، وإنما يذهب أبعد من ذلك، فلا يشكل استيعاب الأزمات بإشكالاتها المختلفة والمتباينة، سوى مقدمة لتأمين تحول العالم العربي إلى الديمقراطية بأقل كلفة ممكنة، بعد الإفادة من التراكمات النظرية الحاصلة في هذا المجال، ومحاورة التجارب الميدانية الدولية الحديثة.
يطرح الباحث ثلاث فرضيات أساسية يخوض طوال صفحات الكتاب تمرين اختبارها، أولها أن الأزمات السياسية والأمنية القائمة في عدد من دول المنطقة، تعكس حجم الإكراهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتراكمة من جهة، وعدم اختيار المداخل اللازمة والكفيلة بدعم التحوّل الديمقراطي من جهة أخرى.
وثانيها، يتعلق بالفائدة والثمرة المرجوة من استصحاب التجارب الدولية، فالإفادة منها يجعل التحول ممكنا في المنطقة، كما سيسمح بانتشال الحراك من حالة الجمود التي هي عليه.
وثالثها، يتعلق بالمدخل السلس الذي يمكن اللجوء إليه لتدبير أزمات التحول، أي مدخل العدالة الانتقالية لتجاوز الارتباكات التي تطبع المشهد السياسي لعدد من دول الحراك، بما يدعم مشاركة الجميع في بناء دولة تتّسع للجميع، ويقطع مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومع مظاهر الفساد والاستبداد.
العالم العربي.. أزمة في استيعاب تجارب التحول نحو الديمقراطية
ينطلق الباحث من ملاحظة مهمة استقاها من خلاصة ما تضمنه عدد من التقارير الدولية والوطنية، تكشف علاقة العالم العربي بالتحولات الديمقراطية في العالم، وهي أن الدول العربية-في مجملها-لم تستوعب التحولات التي شهدها العالم منذ بداية التسعينيات؛ فلم تكسب رهان التنمية ولم تحقق الوحدة الوطنية المنشودة، ولم تلتحق بنادي الدول الديمقراطية.
ويعتبر ـ بناء على هذا التوصيف ـ أن الوقوف على تداعيات أزمة التحول في المنطقة، أمر ضروري لفهم مختلف العوامل المسؤولة عن هذا الجمود واستيعابها، وأن ذلك شرط أساسي لبلورة خلاصات تدعم التحول في هذه المنطقة.
ويرى أن الحراك الذي شكله الربيع العربي، فتح أجواء الأمل من جديد وبشر بإمكان بناء صرح ديمقراطي يقطع مع المآسي والاختلالات التي كانت كلفتها خطيرة في المنطقة على مختلف الواجهات.
وقبل الاحتكاك المباشر بإشكال أزمة التحول الديمقراطي في العالم العربي، حاول الباحث استعادة النقاش النظري حول مفهوم الديمقراطية، ومفهوم التحول الديمقراطي وأنماطه ومداخله الدستورية والانتخابية والتوافقية، ومدخل العدالة الانتقالية، مستعرضا المداخل الثلاثة التي وفرتها تجارب الانتقال الديمقراطي الدولية، (مدخل التحوّل الديمقراطي بعد الاستقلال، ومدخل التحوّل المتدرج نحو الديمقراطية، ومدخل التحوّل في أعقاب انهيار نظم شمولية).
الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة تنطوي على تعقيدات كبيرة؛ أسهمت في اندلاع الكثير من الصراعات والأزمات التي خلفت مظاهر من العنف وانتهاك الحقوق والحريات؛ الأمر الذي يجعل البحث عن مخرج لتجاوز حالة الجمود الحالية أمرا تلفه الصعوبات.
يستعرض الباحث السياق الدولي والإقليمي الذي طرحت فيه أزمة التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، ويشير إلى تفكك النظام الدولي القديم وتبلور أقطاب جديدة، وبداية الانعطاف إلى اعتماد إصلاحات ديمقراطية كسبيل لتجاوز الكثير من المعضلات المحلية التي لا تخلو من مخاطر وتداعيات دولية (نزاعات إقليمية؛ ولجوء وهجرة غير شرعية؛ وتطرف و"إرهاب"، إذ لجأت عدد من الدول العربية، وبشكل تلقائي، إلى إعمال مجموعة من الإصلاحات السياسية، فيما لم يكن هناك من خيار أمام دول أخرى، إلا التجاوب مع الضغوطات الشعبية المتزايدة في هذا الصدد.
ويقدم الباحث أربع سمات أساسية يقيم بها تجارب الانخراط في هذه الإصلاحيات، أولها هشاشتها وسطحيتها، إذ ظلّت المنطقة العربية في منأى عن التحولات الديمقراطية التي طالت عددا من الأقطار منذ مطلع التسعينيات من القرن المنصرم؛ نتيجة الارتباك الذي اعتور المشهد السياسي في هذه الدول وتهميش خيار العدالة الانتقالية، رغم وجود تراكمات تاريخية خطيرة ترخي بظلالها القاتمة على الحاضر والمستقبل؛ التي تجعل من أي تحول نحو الديمقراطية أمرا صعبا بل مستحيلا.
وبدت مختلف "الإصلاحات" التي باشرتها بعض هذه الأنظمة؛ بطيئة ومحدودة، وشكلية معدّة للتسويق الخارجي والتعتيم الداخلي، وتبين أنها تتوخّى خدمة مصالح النخب الحاكمة بالأساس، عبر الحفاظ على الأوضاع القائمة والتحكم في الأوضاع السياسية بأساليب وآليات مختلفة، وتعزيز مكانة النخب التقليدية في المشهد السياسي، وكبح أي تغيير أو إصلاح حقيقيين؛ منبثق من عمق المجتمع.
وثانيها، هو تفريغ الحياة الحزبية من مدلولها، إذ ظلت الأنظمة السياسية القائمة هي الفاعل الرئيس داخل المشهد السياسي، فيما ظلت أدوار باقي الفاعلين هامشية ولا ترقى إلى التحديات والإشكالات المطروحة في مختلف المجالات والميادين، وهو ما عكسته حالة الفراغ السياسي التي خلفها رحيل بعض الأنظمة في ظل الحراك، مثلما هو الشأن بالحالة الليبية.
وثالثها، تقزيم دور المجتمع المدني، وتوظيف بعض فعالياته من قبل الأنظمة السياسية لترسيخ الاستبداد، وذلك عبر خلق مجتمع مدني مواز، يروج للأجندات الرسمية بصورة بعيدة كل البعد عن المهام والأدوار الطبيعية التي يحظى بها المجتمع المدني في الأنظمة الديمقراطية.
ورابعها، التحكم في المشهد الإعلامي؛ إذ نجحت الكثير من الأنظمة في المنطقة لسنوات عديدة في تدجين القنوات الإعلامية، وجعلها بوقا للترويج الاستبداد وتجميل صورته وسياساته في الداخل والخارج، وتكريس تنشئة اجتماعية مبنية على الخنوع والفكر الواحد والخداع، كما استطاعت أن تتكيف مع التحولات الرقمية والثورة التكنولوجية المذهلة في مجال الاتصالات؛ فلم يؤثر في أجندتها تحرير القطاع الإعلامي؛ ولا سهولة الولوج إلى القنوات الإعلامية الدولية؛ ولا سلاسة النشر الإلكتروني وشبكات الاتصال الاجتماعي.
ويخلص في الجملة إلى أن الأوضاع السياسية والاقتصادية في المنطقة تنطوي على تعقيدات كبيرة؛ أسهمت في اندلاع الكثير من الصراعات والأزمات التي خلفت مظاهر من العنف وانتهاك الحقوق والحريات؛ الأمر الذي يجعل البحث عن مخرج لتجاوز حالة الجمود الحالية أمرا تلفه الصعوبات.
في سمات الحراك العربي
يتوقف الباحث على ملاحظة أساسية يصف بها أثر الربيع العربي على الأنظمة السياسية، كونه عرى هشاشتها رغم سلطويتها الظاهرة. ويستعرض أربع سمات أساسية وصف بها الحراك العربي في المنطقة، فبعد أن يلاحظ التفاوت في طبيعته بين النزوع السلمي كما في حالة المغرب والأردن، والنزوع للتوتر والعنف في عدد من التجارب كما في حالة ليبيا ومصر وتونس.
يركز في السمة الأولى على طابع التلقائية والتنوع في الحراك العربي، وكيف كان هناك حرص من لدن فعاليات الحراك على استقلاليته عن أي انتماءات حزبية، بما يفيد وعيها الكامل بالأزمة التي تتخبط فيها غالبية الأحزاب السياسية؛ من حيث ضعف امتداداتها الشعبية وتزايد اختلالاتها الداخلية، وأن الرهان عليها يمكن أن يعيق تحول الحراك إلى العمق الشعبي، ويدفعه في المقابل في منحى إيديولوجي أو حزبي أو طائفي.
ويركز في السمة الثانية على الطابع السلكي للحراك، ووعي جميع مكوناته بنجاعة هذا الخيار وفعاليته في التغيير بالنظر إلى مشروعية المطالب، وسحب البساط من كل التيارات التي كانت ترى في العمليات المسلحة والترويع والعنف أسلوبا وحيدا في تغيير الأوضاع.
أما السمة الثالثة، فهي تضارب الشرعيات والمشروعيات، فقد أثار الحراك إشكالات كبرى، كان أهمها الصراع بين الشرعية الدستورية التي تجسدها الدساتير القائمة، والانتخابات التي أفرزت النظم والحكومات السابقة، في ظروف اجتماعية وسياسية مختلفة من جهة أولى، وبين الشرعية الشعبية التي تجسّدها إرادة المواطن ورغبته في تغيير الأوضاع.
ويستوحي الباحث السمة الثالثة من التطور الذي حصل في علاقة الفاعلين الثوريين بشيكات التواصل الاجتماعي، والسلاسة في توظيفها وتحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاء عمومي للنقاش والتداول السياسي، بل وللتعبئة السياسية وتحريك الفعاليات لإسقاط الأنظمة السياسية.
ويتوقف الباحث ضمن دراسة ماسر الحراك على كل تجربة عربية على حدة، بدءا بالتجربة التونسية، مرورا بالحالة الليبية، ثم السورية فالمصرية، ثم المغربية، كما استعرض تحديات هذا المسار، فاستعرض الإكراهات السياسية والاقتصادية ثم الاجتماعية، وسلط الضوء على المعامل الأجنبي، والفرص التي فتحها والمخاطر والتحديات التي طرحها، وناقش أيضا دور الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، وأثرها في تعطيل التحول الديمقراطي وإعاقته، دون أن يغفل التجربة الإسلامية في إدارة المرحلة الانتقالية وشكل تعاطيهم مع الحكم.
التراكم المعرفي والخبرة الدولية في خدمة مهمة تأمين التحول نحو الديمقراطية
خصص الباحث الفصل الثاني من كتابه لدراسة مجموعة من التجارب الديمقراطية الحديثة في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، وفي آسيا وأفريقيا، مع تناول وتحليل الآليات المعتمدة في تدبير مختلف الإشكالات والأزمات التي رافقت التحول في عدد من الدول، مع التوقف عند الدروس المستفادة في هذا الشأن عربيا، سواء فيما يتعلق بالمداخل القانونية والسياسية والاقتصادية والأمنية المعتمدة، قبل تناول دور العدالة الانتقالية في تدبير أزمات التحوّل الديمقراطي في ضوء عدد من التجارب الدولية والإقليمية في هذا الخصوص، وخصص المبحث الثاني من هذا الفصل للدروس المستفادة من هذه التحارب، وكيفيات الإفادة منها عربيا.
وقد خلص الكاتب إلى أن وضعية الأزمة التي تعيشها الكثير من دول الحراك على مستويات عدة، لا تعني بالضرورة أن الحراك في المنطقة فشل أو أحدث ارتدادات نحو استبداد جديد، طالما أن هناك نقاشات جديدة وجريئة برزت على السطح، فالتحول من وضعية الشمولية والهيمنة إلى وضعية المؤسسات والممارسة الديمقراطية لا يتأتى بين عشية وضحاها، كما أنه لا يتأتى بدون ضريبة، والتجارب الدولية تؤكد أن عبور الدول إلى مرحلة الديمقراطية لم يخل من مشاكل وتعقيدات وتضحيات؛ كما أن ذلك تطلب جهدا ووقتا ليس باليسير، بل إن الأزمات غالبا ما تدفع نحو الإبداع والاجتهاد والبحث عن سبل أكثر جدية وفعالية لتجاوز المعضلات المطروحة، وتشكل فرصة لتعزيز المكاسب وتطوير التجارب والخبرات.
ويعتبر الباحث أن واقع الممارسة يشير إلى أن التجارب الدولية الرائدة على مستوى التحول الديمقراطي، تتقاسم الكثير من المقومات والمداخل التي يمكن اعتمادها لتدبير أزمة التحول الديمقراطي في العالم العربي؛ فهي تجارب وإن استحضارها أضحى أمرا حيويا بالنظر إلى كونها تقدم دروسا وعبرا تسمح بالاستفادة منها ميدانيا بأقل كلفة.