يعيش الشعب
الفلسطيني على مدى عشرات السنوات بل ما يزيد عن مائة عام الآن؛ في صراع دائم، منذ عام 1882 ومع بدايات الهجرات اليهودية الصهيونية إلى مختلف أراضي المدن الفلسطينية المختلفة في القدس وطيرية ويافا وعكا وحيفا وغيرها. ومع بدايات الحرب العالمية الأولي تزايدت الهجرة الصهيونية بدعم بريطاني وأوروبي، ولكن كانت الأعداد محدودة، لرفض الدولة العثمانية لاستيطان اليهود أرض فلسطين. ولكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية وبداية الانتداب البريطاني في عدد من الدول العربية ومنها فلسطين؛ شجعت إنجلترا - من خلال ما سمي بوعد بلفور1917 - الحركات الصهيونية في العالم على زيادة أعداد اليهود في فلسطين وتوطينهم فيها، بهدف إنشاء كيان صهيوني محتل في قلب المنطقة العربية الإسلامية، لتكون عاملا من عوامل عدم الاستقرار والزعزعة فيه. وكان عام 1947 وقرار الأمم المتحدة رقم 181 لتأسيس الدولة الصهيونية، وللعلم امتنعت المملكة المتحدة عن التصويت على القرار!! مع أنها الدولة التي خططت لزرع الكيان في المنطقة!! ثم كانت أحداث أيار/ مايو 1948 وإنشاء الكيان على أراضي فلسطينية وحرب 48 وتهجير الملايين من الفلسطينيين عن أراضيهم ليعيشوا كلاجئين في شتى بقاع الأرض.
بعد حرب 48 تم تأسيس عدد من المنظمات الفلسطينية، سواء ذات التوجه الإسلامي أو القومي أو البعثي أو اليساري، من أجل مقاومة الوجود الصهيوني، وتم الإعلان عن حركة التحرير الفلسطيني (
فتح) وكانت ذات توجه قومي في شكلها العام، وهذا التوجه كان هو السائد في العالم العربي وقتها. ومن خلال الاسم نجد أن الهدف هو تحرير فلسطين المغتصبة. ثم تم الإعلان عن منظمة التحرير الفلسطينية التي ضمت عدد من الحركات التي تستهدف المقاومة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
وبالفعل كانت المقاومة الفلسطينية باختلاف منظمتها تقوم بعمليات داخل الأراضي الفلسطينية وكانت موجعة للكيان. وفي عام 67 استولى الكيان على أراضي فلسطين بالكامل ولم تستطيع المنظمات الفلسطينية تحرير فلسطين، ومع منتصف الثمانينات بدأت التنازلات ومع عام 88 تبنت منظمة التحرير فكرة حل الدولتين. وكانت هذه الخطوة الأولى على هذا الطريق، وجاء مؤتمر مدريد والتفاوض مع الكيان، وفي عام 93 تم الإعلان عن اتفاقية غزة أريحا أولا ويبدو أنها كانت أولا وأخيرا. وتوالت التنازلات وبدأ التعاون الأمني مع الكيان حتى وصلنا إلى اعتبار القدس بالكامل عاصمة للكيان، وضم الجولان، وما يحدث الآن من تهجير جديد للفلسطينيين وهدم لبيوتهم وتشجيع للمستوطنين على الاستيلاء على معظم مدن الضفة وما يطلق عليها بصفقة القرن.
مع بدايات التنازلات لمنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ومع الانتفاضة الفلسطينية الأول، تم تدشين وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية (
حماس) وصدر ميثاق الحركة في آب/ أغسطس 1988.
والحركة حسب ميثاق التأسيس هى امتداد لحركة الإخوان المسلمين في العالم. وحركة الإخوان لها دور كبير في القضية الفلسطينية، وهي قضية إسلامية في المقام الأول منذ ثورة عام 1936 أو ما اطلق عليها الثورة الكبرى. ولا يخفى على أحد دور الإخوان والأستاذ البنا رحمه الله في هذه الثورة، وإرسال كتائب من المجاهدين المصريين ومن مختلف البلاد العربية للمشاركة في هذه الثورة ولدعم موقف المفتي الحاج أمين الحسيني. وقد شارك في كتائب الإخوان الأساتذة كامل الشريف من الأردن ومصطفى السباعي من سوريا ومحمود الصواف من العراق وغيرهم.
وذكر ميثاق تأسيس الحركة أن "التفريط في أي جزء من فلسطين تفريط في جزء من الدين، فوطنية حركة المقاومة الإسلامية جزء من دينها"، وأكد أن عقيدة الحركة تقوم على ثوابت أساسية أهمها عدم التنازل عن أي شبر من فلسطين، وأن الوطنية والوطن جزء من الدين، بحيث تم التأكيد على أن الأصل إقامة الدين وليس تحقيق التوافق الوطني.
تم تعديل ميثاق التأسيس منذ عدة سنوات، وفي الوثيقة الجديدة أعلنت الحركة قبولها لحدود 67 بمعنى وجود دولتين، وقد اعتبرت ذلك مع جوانب أخرى في مقال سابق بأنها الخطوة الأولى على طريق "زحلاقة" أو منحدر التنازلات.
بعد الانتخابات التشريعية عام 2006 وفوز حركة حماس بها، وتشكيل حماس لحكومة فلسطينية برئاسة إسماعيل هنية، وما تلا ذلك من الهجوم لعدة مرات على قطاع غزة، وانقسام حركة فتح وعدم قيام السلطة بأي انتخابات رئاسية خلال تلك الفترة وعدم التزامها بالاستحقاقات الانتخابية المستحقة، وكان المبرر لعدم تنفيذ تلك الاستحقاقات هو وجود الانقسام الفلسطيني وأن قطاع غزة يدار بواسطة حماس وأن الضفة تديرها السلطة.
ومع دخول إدارة جديدة للبيت الأبيض وإعلانها عن اهتمامها بقضية الديمقراطية وأنها ستكون أحد معايير التعامل مع الأنظمة المختلفة، سارعت السلطة الى إصدار مراسيم انتخابية للانتخابات التشريعية والرئاسية على التوالي، وليس على التوازي كما كانت تطالب القوى الفلسطينية المختلفة، وذلك لاستكمال الشكل الديمقراطي لها. وتم عقد اجتماعات للشركاء المتشاكسين في القاهرة ولبنان، وحدثت ضغوطات لإصلاح البيت الفتحاوي. وقد وافقت حماس على المشاركة في الانتخابات التشريعية واعترضت حركة الجهاد الإسلامي حتى الآن، على أن تجرى هذه الانتخابات في شهر أيار/ مايو القادم، وعلى أن تتبعها الانتخابات الرئاسية في نهاية تموز/ يوليو يأتي بعدها تشكيل المجلس الوطني لمنظمة التحرير.
والسؤال المطروح الآن هو: على أي أساس قبلت حركة حماس المشاركة في الانتخابات القادمة؟ وهل لديها الضمانات التي تمنع تكرار ما حدث في انتخابات عام 2006، عندما حازت على أغلبية المجلس التشريعي وشكلت حكومة ثم تم سحب البساط من تحت أقدامها وانقلبت عليها السلطة، وعاش الفلسطينيون على مدة 15 عام من الانقسام والفرقة؟
وقد صدرت بعض التصريحات عن بعض قياديي حماس أنه قد تم تجاهل بعض القيادات ولم يتم أخذ رأيهم تجاه المشاركة أو عدمها، وهل تمت دراسة أو بحث احتمالية عدم حصول أي طرف من المتشاكسين، سواء حماس أو فتح، على الأغلبية (وهذا غالبا هو المتوقع خصوصا مع عودة مجموعة دحلان للقطاع). فهل سيتم تشكيل تحالف وبالتالي ستكون نصف الحكومة مع أوسلو والنصف الثاني ضدها؟ والسؤال الأهم هو: فلسطين إلى أين؟
كانت البداية أن الجميع مجتمعون ويؤيدون ويعملون على تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، الإسلامي والقومي والبعثي واليساري، ثم بدأ البعض (القومين والعرب وقرار الجامعة العربية 2002) ينسحبون تباعا ويتجهون إلى تسوية القضية، بمعنى التنازل قليلا من أجل الحل والقبول بالدولتين، وإن ظل الإسلاميين وبعض اليساريين صامدين على التمسك ببديل التحرير. ثم ظهر بديل جديد وهو التطبيع، بمعنى القبول بالكيان بل ودعمه وإقامة العلاقات معه. وهذا كان قديما موجودا، ولكنه كان مستترا، وخرج إلى النور في الفترة الأخيرة.
وبالتالي، فان فلسطين إما إلى التحرير أو إلى التسوية أو إلى التطبيع. وبعد قبول حماس بفكرة الدولتين انتقلت من التحرير إلى التسوية، ولم يظل في مربع التحرير إلا القليل من القوى الصغيرة التي ليس لها تأثير أو ثقل في الشارع الفلسطيني.
من هنا فان قبول حماس بالانتخابات الفلسطينية دون تحديد واضح للهدف في نهاية الطريق يمثل خطوة أخرى على طريق الزحلقة والتنازلات بسبب مآلات هذه الخطوة. وأما الحديث عن أن هناك خطوطا لا يمكن التنازل عنها، فذكرني بما كان يقوله الرئيس السادات عندما استلم الحكم عام 1970؛ أنه يسير على خطى عبد الناصر. وقال المصريون وقتها إنه يسير عليها بالأستيكة (الممحاة) لإزالته. فنسأل الله العافية والسلامة والتوفيق.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.