قضايا وآراء

ضحايا التحرش بين مطرقة المجتمعات وسندان الأنظمة القمعية

رفقة شقور
1300x600
1300x600
بعد التفاعل الكبير مع جريمة متحرش المعادي في مصر على وسائط التواصل الاجتماعي، وفي كل مرة تُثار فيها قضايا التحرش في المجتمعات العربية نتذكر كل ضحية من ضحاياها.

في نفس الفترة مرت جريمة قضائية بصمت، ففي شباط/ فبراير من هذا العام الجاري قرر قاض إخلاء سبيل متهم بخطف واغتصاب فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة في الخليل الفلسطينية المحتلة. حصل هذا في محكمة بداية الخليل، حيث صدر قرار قضائي بإخلاء سبيل الجاني بكفالة ألف دينار نقدي وألفي دينار عدلي. والنيابة العامة نجحت في اللحظات الأخيرة بالاعتراض ومنعت إخلاء السبيل وذهبت للاستئناف، وتفاصيل أخرى لدى عائلة الضحية.

اللافت في الأمر وبعد كل مرة تحاول فيها المنصات الفردية على وسائط التواصل الاجتماعي فرض أجندة مشتركة للمجتمعات العربية كي تشكل وسيلة ضغط على صناع القرار وأهل السلطة، فإنها تُقابل بتيار اجتماعي مُحبط يدعو الناس للستر على المتحرشين والمغتصبين، وحتى حين اقتراف جرائم الانتهاكات السياسية في السجون من تعذيب للنساء واغتصابهن في سجون القمع أو الاحتلال.

الوقوف على مثل هذه الحوادث ومثل هذه التفاعلات يجعلنا نستحضر مجموعة التناقضات والخلل والمشكلات التي تعاني منها شريحة واسعة من المجتمعات وهي:

أولاً: الخلل الاجتماعي: تعاني المجتمعات الصغيرة التي تنبذ حركة المطالبة بحقوق المغتصبات والمعنفات من إرث اجتماعي قديم يعيب الضحية ويضع الكثير من التبريرات للجاني أو المتحرش أو المغتصب، وهذا أمرٌ يعكس حالة استلاب نفسي أمام الموروث، وهو الذي يحمل الضحايا من النساء مسؤولية تلك الاعتداءات على كل الأحوال.

ثانيا: الخلل الكبير في ترديد عبارات من الموروث الديني وتوظيفها وتأويلها في غير موقعها، ومنها ترديد عبارة أن الدين أمر بالستر أو الكل خطّاء، وغيرها من العبارات التي لا تحتمل توظيفها في مثل هذه الجنايات والجرائم الصريحة، وهذا يعكس حالة من الجهل والاستلاب أيضاً. فمن يردد تلك العبارات لا يعلم مقدار الأذى الاجتماعي والنفسي والسياسي الذي يجلبه على المجتمعات؛ بدعوته لتبلد ردود الفعل واستعانته بنصوص دينية بغير مكانها ولا زمانها لتبرير السكوت عن حقوق الضحايا حتى لا يتم وصمهن اجتماعياً. ففي تلك المجتمعات بدلاً من وصم الجاني وإصدار الأحكام القانونية في حقه، تذهب إلى وصم الضحية مجتمعياً بالعار الاجتماعي ونبذها وقد يطال هذا النبذ كامل عائلتها.

ثالثاً: الخلل القانوني والقضائي: في ظل فوضى القوانين، وحالة عدم وجود قوانين رادعة للمجرمين والمغتصبين والمتحرشين، لن يتم الخلاص من تلك الجرائم عموماً ولا حتى التخفيض منها. ففي عدة حالات تابعناها الأشهر الماضية في دول عربية لاحظنا كيف نجا الجناة بفعلتهم وضمنها قضايا ما يسمى "جرائم الشرف". فالجناية بحق إسراء أبو غريب أو ضحية الخليل وضحايا التحرش والاغتصاب والقتل؛ قد تنتهي غالباً بما يسمى قانون دم الولي، وهو أن يأخذ المعتدي على المرأة حكماً مخففاً لأنه وليها وهي من دمه! أو قد ينتهي بفنجان قهوة عشائري في حالات العنف والاغتصاب وتطوى الصفحة.

رابعاً: الخلل الفكري النسوي لدى عامة النساء في تلك المجتمعات، فغالباً ما نقرأ تعليقات نسوية معادية للضحية، منها أن نقرأ تعليقات لنساء تتساءل تحت خبر وقوع ضحية قتل عنف أسري أو اعتداء جنسي عن ماذا فعلت الضحية. يعني في عقول تلك النساء حالة من الخصاء النفسي والفكري، بحيث يعمل عقلها التبريري على تبرير الجريمة للمعتدي، وأن هنالك سببا ليسلب الجاني ضحيته حياتها بسببه، وهذا يعكس خللاً في المواريث الاجتماعية التي تناقلتها تلك المجتمعات والتي في معظمها تنحاز للجاني على المرأة، وتبرر له أفعاله إما لنفوذه الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو حتى نفوذه على مستوى القوة الجسدية والتمييز الجنسي لصالح الذكر.

خامساً: الخلل السياسي: حالة القمع التي أرستها النظم الديكتاتورية ومشاهد العنف والدماء والقمع التي تتكرر في المجتمعات تحت حكم الديكتاتوريات؛ جعلت هنالك نوعا من التعايش الصامت مع أشد الظواهر الاجتماعية غرابة، كذلك مع ظواهر الفساد الإنساني والأخلاقي. وهذا التعايش الصامت جعل هناك نوعا من الموت المعنوي الجماعي وتبلدا في الحس الإنساني وشعورا بالعجز عن تغيير وقائع الإذلال. فالمجتمعات التي سلبتها الديكتاتوريات الكرامة الإنسانية فاستحلت دماء الناس واستباحت الانتهاكات بحق النساء؛ هي الأكثر عرضة لأن يفلت الجاني فيها من العقوبة مهما كبرت.

سادساً: الخلل الأخلاقي: هنالك حالة شائعة من الفشل الأخلاقي في المجتمعات التي تبرر للجناة والمغتصبين أفعالهم، فتمنحهم الأدوات الكافية اجتماعياً وقانونياً للتأصيل لهذا الواقع. وفي كل مرة يفلت فيها الجاني من العقاب في إطار انتصار قانون العشائر أو قانون الاجتماع الذي يحقر الضحية ويصفها بعدم الحشمة أو يبحث في سلوكها عن سبب يبرر للجاني جريمته؛ ينتصر قانون الغاب وقانون العشيرة والقوة على حقوق الناس وكراماتهم. فكل الذين يقفون للتبرير للجاني يعايشون أزمةً أخلاقية سواء وعوا ذلك أم لم يعوا. فالتبلد الأخلاقي والإنساني الذي لدى تلك الشخصيات التبريرية يرفد من المنبع الأساس، وهو العنف القمعي السياسي الذي يغذي بلادة ردات الفعل تجاه كل عمل لا أخلاقي ولا قانوني في السياسة كما في الاجتماع.

سعي تلك التجمعات التبريرية لتبرير سلوك الجناة وسلب الرأي العام بوصلته، كذلك محاولتهم لإحباط المنصات الفردية المطالبة بالقوانين الرادعة؛ لا يمكن أن نفهمه إلا على أنه انعكاس لمجموعة الأزمات التي يعيشها العقل المأزوم سياسياً وأخلاقياً ودينياً ومجتمعيا، فلطالما كانت الإدانات الفردية لتك الأفعال والانتهاكات هي الملاذ الأخير والسلاح الأخلاقي الأخير في يد من يريد تغيير هذه الوقائع، لكن كل صوت يطالب بالسكوت يحاول سلب الناس ذلك السلاح وتلك السلطة الإنسانية الأخيرة في مواجهة كل ما هو مسكوتٌ عنه من انتهاكات في المجتمعات.

سوف تظل المجتمعات في ظل أنظمة القمع والديكتاتوريات تعاني في الكثير من القضايا في ظل تغييب القانون والقضاء، وفي ظل الانتهاكات القانونية والانتقائية الحقوقية. فالضحايا في المجتمعات القمعية متفاوتون تحت القانون، كذلك الجناة حسب مجموع العلاقات العشائرية والسلطوية التي قد تنقذ الجاني وتلوم الضحية.

لا بد من الاستعانة بالمنصات الفردية للمؤثرين في تلك المجتمعات من أجل فرض أجندة عامة على تلك المجتمعات؛ تكون بمثابة ثورة أخلاقية وقانونية موازية للثورات السياسية. فلا يمكن للمرأة في مجتمعات تحت أنظمة العنف والقمع من تحصيل حقوقها النفسية والمعنوية والمادية دون الاستعانة بخط الثورة السياسية. فالمنظومات القانونية والقضائية تحت نظم الحكم العسكرية هي أنظمة أبوية، تقمع النساء وتصنف المجتمعات كي يسهل عليها السيطرة على أركانها، بعكس المجتمعات الديمقراطية التي تضع حقوق المرأة القانونية في أولى أولوياتها ولا تسمح لنظام الاستقواء والتشريع الانتقائي بأن يدير تلك الجرائم والانتهاكات.

أيضاً على المستوى النسوي، لا بد من أن تسير حركة التثقيف والتوعية النسوية للنساء في المجتمعات العنفية والقمعية، جنباً إلى جنب مع المشروع التوعوي الثقافي السياسي بحقوق النساء. فوجود نساء تبرر لاعتداء لجناة عليهن وترى أن التحرش أمر طبيعي أمر؛ لا يمكن فهمه إلا على أنه حالة تماهٍ تامة مع الوضع الإقصائي والإلغائي الذي تعيشه المرأة من كافة الفئات العمرية تحت نظم القمع والاحتلال.

الحركات الحقوقية والناشطة في تلك المجتمعات مطالبة بالضغط لاستحداث قوانين لحماية الأسرة، وحماية النساء بالتحديد من كافة أشكال العنف اللفظي والمعنوي والنفسي والجسدي. فالوضع القانوني الذي يسمح للجناة بالحصول على أحكام مخففة تصل حد الإفراج؛ يستلزم ثورة قانونية وحقوقية وسياسية على تلك النظم.
التعليقات (0)