هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تثير الحالة التي آلت إليها غالب حركات الإسلام السياسي أسئلة الجدوى حول استمرارها على ذات النسق في ممارستها للعمل السياسي، إذ أن انخراطها في شؤونه بذات النهج وبنفس البنى الفكرية والسياسية الحاكمة لتوجهاتها والمحددة لمواقفها لن يقود إلا إلى ذات النتائج المأساوية وفق مراقبين.
وخلال العقود السابقة خاضت تلك الحركات غمار العمل السياسي، وانخرطت في ميادينه تنظيرا وممارسة، إلا أن غالب تجاربها مُنيت بالفشل لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، ولا يمكن حصر تعليل أسباب فشلها بتعليقها على ما يحاك ضدها من مؤامرات وتخطيطات، فهذه طبيعة السياسة التي لا تنفك عنها بحال.
وأمام انسداد أي أفق سياسي ممكن في ظل تصاعد موجات محاصرة تلك الحركات واستهدافها بشكل واضح ومباشر، ما الذي ترجوه تلك الحركات من وراء إصرارها على الانخراط في ميادين العمل السياسي؟ وهل ثمة فرص حقيقية يمكن اقتناصها في ظل تلك المناخات القاتمة أم أنها بمواصلتها لذات النهج والسياسة لا تعدو أن تكون كمن يزرع في الهواء أو يحرث في الماء؟
تلك التساؤلات تقود إلى إثارة ذلك السؤال الإشكالي الذي تتحاشى غالب تلك الحركات مناقشته بصوت عالٍ، والمتولد من رحم معاناة الانخراط في شؤون العمل السياسي بكل تبعاته الثقيلة، ونتائجه المؤسفة، والذي يدور حول ضرورة اعتزال العمل السياسي، والتفكير الجاد إن كان قد أضحى واجب الوقت بحق تلك الحركات حرصا على وجودها، وحفظا لطاقات كوادرها من أن تُهدر فيما لا طائل تحته، وتوظيفها فيما هو أكثر إنتاجا، وأعمق أثرا من ميادين الدعوة والتعليم والإرشاد.
في مناقشته للتساؤلات المثارة لفت الكاتب والباحث المصري، جمال سلطان إلى أن "مشكلة الحركات الإسلامية المعاصرة تكمن في أنها وُلدت تاريخيا في قالب لم يعد يصلح للواقع السياسي الحالي، ألا وهو قالب الجماعات الشاملة، التي تمثل حاضنة إنسانية بديلة للدولة، وهو قالب وُلد بدوافع عاطفية بعد الإعلان عن زوال دولة الخلافة في الربع الأول من القرن العشرين".
وأضاف "وهذا القالب تسبب في وضع الجماعات الإسلامية في صدام متتابع ومرهق، وأحيانا دموي مع الحكومات المتعاقبة، سواء في مصر أو غيرها من البلدان، لأن أحدا لن يقبل بالدولة الموازية، أو الإمام الموازي، أو الملك الموازي، أو الرئيس الموازي أو الحكومة الموازية، لذا فإنني أعتقد أن كسر هذا القالب والخروج من أسره أصبح ضرورة واقعية ومستقبلية".
وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول "لقد أصبح ذلك النموذج عبئا على التيار الإسلامي وعلى الدول أيضا، ومن المهم أن ينخرط الشباب الإسلامي في الحياة العامة الواسعة في مجتمعه، سواء كانت أحزابا أو مجتمعا مدنيا أو أي نشاط آخر، ضمن الحدود المتاحة، وبالعمل على توسيع مساحات الحركة، وفق نضال مشترك مع بقية قوى الوطن من أجل مراكمة إصلاحات تسمح ببناء دولة ديمقراطية تحمي كرامة الإنسان وحقه في التعبير والمشاركة".
وطبقا لسلطان فإن "ما يلزم الجماعات الإسلامية إذا ما أرادت أن تحافظ على خزانها البشري وأعضائها، فعليها الإعلان بوضوح وحسم خروجها من مجال العمل السياسي بكل أبعاده، وتركيز جهودها في التنمية البشرية والتعليم والتثقيف الديني ودعم النوازع الأخلاقية، وهي عندما تفعل ذلك ، وتعتزل السياسة ، فإنها لن تكون بمعزل نهائي وتام، لكنها ستكون أشبه ما تكون بقوة ضغط اجتماعي مؤثر بقوة على التوجهات السياسية للأحزاب والشخصيات والحكومات".
وأردف: "وفي تلك الحالة فإن الجميع سيخطبون ودها، دون أن تنخرط بشكل مباشر في الصراع السياسي وتتحمل تبعاته المريرة"، داعيا إلى التوقف عن "إهدار طاقات الشباب الإسلامي، شباب الأوطان، ويكفي ضياع أعمار ملايين في أقبية السجون والمعتقلات، أو على أعواد المشانق أو في التشريد في أنحاء العالم بعيدا عن الأوطان، بدون عائد حقيقي، لا لهم ولا لأوطانهم، والتاريخ خير شاهد" على حد قوله.
من جهته رأى الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، ساري عرابي أن "الحركة الإسلامية بمساحات عملها المتعددة والواسعة والشاملة لا يمكن القول إنها فشلت بالمطلق، لا سيما وأن الحقل الذي فشلت فيه، وهو السياسة، واحد من مساحات عملها، وليس مساحة العمل الوحيدة التي انطلقت من أجلها".
وأضاف: "ومن ثم، وبالرغم من أن هزائم الحركة كانت قاسية وكاسحة بعد نجاحات الثورة المضادة، الأمر الذي أعطى وجاهة للقول بأن الحركة الإسلامية في صورتها التقليدية قد تخرج من التاريخ، إلا أن آفاق العمل أمامها ما تزال ممكنة، بالاهتمام بمجالات عملها المتعددة، وإعادة النظر في مقارباتها السياسية".
وردا على سؤال "عربي21" إن كان واجب الوقت بات يلزم تلك الحركات باعتزال العمل السياسي والابتعاد عن الانخراط فيه بصورة مباشرة، قال عرابي "ربما تكفّ لحركة الإسلامية عن الانغماس المباشر في السياسة، ليس فقط لأنها فشلت في هذا الحقل، ولكن لأن العمل السياسي جارَ على حقولها الأخرى، وسعى لتسييس كل مجالات عملها، وأعاد توظيف الدعوة والخطاب لصالح السياسي، وهو أمر خطير عموما".
وتابع: "وبالتالي فعودة الحركة للتركيز على حقلي الدعوة والعمل الاجتماعي وتحريرهما من سطوة السياسي، مع منح الحرية لأفرادها لممارسة السياسة غير المسقوفة بمرجعية حزبية إسلامية قد يكون من المقاربات القابلة للنقاش والنظر، وبذلك تُخرج الحركة الإسلامية شخصيات نظيفة ومحترمة تتخذ خياراتها الخاصة في مسارات العمل السياسي مع بقاء الحركة جماعة ضغط وحاضنة تربوية ودعوية لتلك الشخصيات".
بدوره أكدّ الأكادمي الأردني، والقيادي السابق في جماعة الإخوان بالأردن، الدكتور عبد الله فرج الله أن "اعتزال السياسة ليس خيارا مناسبا للحركات الإسلامية التي تبنت خيار الإصلاح الشامل في أوطانها، وقدمت في سبيل ذلك الكثير من الجهود والتضحيات، وما زالت تقدم، إلا إذا رأت الانحيار لخيار التغيير الجذري بإسقاط الأنظمة الحاكمة بدل العمل على إصلاحها".
ورأى أن "خيارات الحركات الإسلامية بعد كل هذه التجارب المريرة في ميادين السياسية تنحصر في أمرين لا ثالث لهما: أولهما أن تعترف بفشلها، وتعمل على إعادة تموضعها، وتعديل مسارها وبرامجها وهياكلها، وفق معطيات الثالوث الرهيبب الذي جمع في تحالف يفتقر للقيم والمبادئ بين السلطة والقوة المال، وبالتالي السيطرة على كامل مفاصل الدولة، إعلامها واقتصادها وقضائها وأجهزتها الأمنية..".
وتابع "أما الخيار الثاني فيتمثل في ظل حكم هذا التحالف القذر في أن تريح تلك الحركات نفسها من عناء العمل، وبذل الجهود على الهوامش، إن لم تملك جرأة اقتحام هذه الميادين (السلطة والقوة والمال)، إن استطاعت بخطط وبرامج حقيقية".
وشدد فرج الله في حواره مع "عربي21" على أن "تحالف السلطة والمال والقوة أنشأ للأسف عصابات حاكمة، مستعدة لفعل كل ما من شأنه أن يثبت أقدامهم في الحكم، ويحافظ على مواقعهم وامتيازاتهم، لذا فإن هذا التحالف عنيف جدا في الوقوف بوجه كل من يحاول المساس أو الاقتراب منه".
ودعا تلك الحركات إلى "ضرورة مغادرتها لحيز المعارضة والمراقبة عن بعد، الذي سيطر على فكرها وخططها ورؤاها وبرامجها سيطرة تامة، لتعمل بنفس الشريك في الحكم وإدارة البلاد، وعليها أن تمتلك رؤية وجرأة في اختراق هذا الثالوث، وأن يكون لها اطلاع ومعرفة بأسراره وأهدافه، وارتباطاته الخارجية والمشبوهة" وفق وصفه.
ولفت إلى "ضرورة التفريق بين الهدف والوسيلة في العمل السياسي، إذ تحولت الوسيلة في كثير من محطات العمل السياسي إلى هدف، فخوض الانتخابات ودخول البرلمانات أصبح هدفا بحد ذاته، الأمر الذي قزم الغايات والانجازات والتطلعات..وهو ما أفضى في المحصلة النهائية إلى انطلاء حيل وآلاعيب هذا التحالف على حركات الإسلام السياسي بإبقائهم على هامش العمل السياسي بانتخابات مزورة، ومجالس شبه معينة، وقوانين مصنوعة تماما لخدمة تحالف هذا الثالوث".
وفي ذات الإطار رأى الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، الدكتور غازي العواودة أن "اعتبار العمل السياسي للحركات الإسلامية قد وصل كله أو جله إلى الإخفاق والفشل ليس صحيحا على إطلاقه، وإن واجه حربا ضروسا من الأنظمة العسكرية والدول الاستعمارية في سبيل منع نجاحاته كما في مصر وسوريا والسودان، لكنه نجح إلى حد ما في تونس والمغرب ربما، وما زال يعاني في ليبيا والأردن واليمن، وهو يمثل حالة التدافع البشري الذي سيأخذ مداه حتى يصل إلى الحالة المقبولة مجتمعيا".
وتساءل العواودة "هل لو بقيت الحركات الإسلامية تمارس العبادات والعمل التربوي والخيري والنقابي والتعليمي كانت ستواجه ما واجهته عندما اقتربت من العمل السياسي؟ ليجيب "بالتأكيد لن تواجه ذلك، وقد كشفت تلك الحركات بممارساتها للعمل السياسي عن قدرات هائلة في العمل السياسي المحترف، واكتشفت الأنظمة أنّ لهذه الحركات رصيدا شعبيا جارفا، وثقة لدى الناس لا توازيها أية ثقة".
وأضاف لـ"عربي21": "ومن أجل هذا تم التحالف مع الغرب والشرق لمواجهة هذه الحركات التي تمثل نبض الناس وروح الأصالة لديهم، ومن أجل هذا دُفعت المليارات لاجتثاثها وقد عاشت عشرات السنين من قبل لا يعبأ بها أحد، حتى اقتربت من السياسة فإذا هي تقترب من جهنم، من عش الدبابير، ومن مكامن الخطر، ومن رؤوس الأفاعي، فكان ما كان..".
وردا على سؤال: هل بات خيار اعتزال السياسة واجب الوقت لحركات الإسلام السياسي توفيرا لجهودها والاشتغال بما هو أكثر إنتاجا وأعمق أثرا، لفت العواودة إلى أن "الحركات الإسلامية تعمل باستمرار وفق مساحات الحرية المتاحة، فكلما زادت هذه المساحات زادت مستويات الأعمال وفي مختلف المجالات، فإن ضيّقت الأنظمة مساحات الحرية على الشعوب لتقييد الحركات الإسلامية ضاق الناس ذرعا بها".
وخلص في ختام حديثه إلى أن "الحرية أوكسجين الناس، فإن اختنقوا انفجروا، وليس في مصلحة الأنظمة انفجارهم ولا خروجهم عن المعهود، ولذلك العمل السياسي المتاح لا يتوقف، والحركات الإسلامية قدر الأمة في رفع الظلم وقيادة الأمة من جديد نحو النهوض، ونفض غبار الاستعمار العسكري والثقافي والاجتماعي طال الزمن أم قصر".