هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعاني مصر من فجوة غذائية كبيرة في الحبوب الإستراتيجية خاصة القمح، فهي تتربع منذ سنوات على قمة الدول المستورة للقمح. إذ توقع تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية أن مصر ستستورد من القمح 13 مليون طن في الموسم الحالي (2021/2020)، بانخفاض طفيف من 13.3 مليون طن في الموسم السابق (2020/2019). هذه الكمية الهائلة تنفرد بها مصر دون دول العالم، وتستورد 80 في المئة منها من روسيا..
والعجيب أن الفلاحين في مصر ينتجون سنويا حوالي 10 ملايين طن من القمح المصري المعروف بجودته العالمية، يستطيع الفلاح المصري توريد ثلاثة أرباعها للدولة لو هي طلبت ذلك، لكن النظام الحالي حدد سقفا لا يزيد عنه وهو في حدود 3.5 مليون طن فقط، وهذا في الحقيقة ربما خطة ممنهجة لطحن الفلاحين في مصر.
فلا يتم مثلا الإعلان عن أسعار المنتجات الزراعية إلا مع بداية موسم الحصاد وليس قبل زراعتها، وهذا هو ظلم بيّن للفلاح؛ لأن الإعلان المسبق ربما يشجع الفلاح على الزراعة خاصة لو كان سعرا مشجعا، لكن النظام دأب أن يعلن السعر على أبواب موسم الحصاد في كل السلع التي يحتكرها من الفلاحين، وأهمها القمح. وسعر القمح هذا العام الذي أعلنه النظام العسكري هو سعر ظالم جدا للفلاح ولا يراعي الارتفاع المهول في أسعار كل شيء، بداية من مدخلات الإنتاج من أسمدة ومبيدات وعمالة وخدمة أرض وغير ذلك.
فالسعر الجديد للقمح المصري الأصيل الذي لا يقارن أبدا بـ"الزبالة" التي يستوردها النظام من الخارج، وهو 725 جنيها للأردب نظافة 23.5 في المئة، و715 جنيها للأردب درجة نظافة 23 في المئة، و705 جنيهات للأردب درجة نظافة 22.5 في المئة.. أي أن متوسط الزيادة هو حوالي 30 جنيها فقط، أي بحوالي 3 في المئة فقط هو سعر متدن جدا ولا يحقق للفلاح أي هامش ربح مطلقا. وحتى تتضح الصورة أكثر لو قمنا بمقارنته بسعر العام الماضي وهو700 جنيه للأردب درجة نظافة 23.5 قيراط، و685 جنيها للأردب درجة نظافة 23 قيراطا، و670 جنيها، لأردب درجة نظافة 22.5 قيراط يعني الزيادة بهذا الشكل على الترتيب 25 لأعلى درجة نقاوة و30 للدرجة الثانية و35 جنيها للدرجة الأخيرة.
لكن هناك نقطة خطيرة كما أشرنا وهي تثبيت نفس الكمية التي يأخذها النظام من الفلاحين كل عام وليس رفعها، وهي حوالي 3.5 مليون طن فقط. فلو أن النظام يسعى حقا لتحقيق اكتفاء ذاتي ولو جزئي لرفع كمية الاستلام من الفلاح كما وعد عبد الفتاح السيسي رأس النظام العام الماضي بزيادة الكمية، لكن هذا لم يحدث على الأرض، بل الكمية انخفضت عن المعلن، حيث أعلنوا أنهم رصدوا مبالغ تعادل 3.6 مليون طن لكن لم يستلموا من الفلاحين إلا 3.5 مليون طن فقط، فيما الزيادة دائمة في كمية المستورد، حتى أن النظام العسكري دأب على زيادة كمية المستورد أثناء موسم الحصاد، وليس وقف الاستيراد كما فعل الدكتور باسم عودة الذي أوقف استيراد القمح خلال موسم القمح المحلي، حتى لا يختلط المحلي بالمستورد وحتى يتم إفراغ الشون والصوامع لاستلام القمح من الفلاحين.
لكن، وهذه مفارقة عجيبة من النظام العسكري، أنه أعلن ولأول مرة في مصر عن مضاربة على القمح هذا عبر البورصة السلعية التي أسسها العام الماضي، حيث أعلن رئيس جهاز تنمية التجارة الداخلية الدكتور إبراهيم عشماوي، أن منتصف نيسان/ أبريل الحالي، وهو بدء موسم حصاد القمح رسميا في مصر ولمدة ثلاثة شهور، سيشهد أولى عمليات التداول في البورصة السلعية، التي يرأس عشماوي مجلس إدارتها، وسيكون القمح هو السلعة التي تبدأ البورصة بتداولها.
والبورصة السلعية هذه تهدف إلى تحديد السعر الحقيقي لأهم السلع الاستراتيجية والاستهلاكية الأكثر تداولا في السوق المحلي، كما يقولون. وهي منصة إلكترونية تتيح التداول على السلع القابلة للتخزين، عبر إيداع المنتجين والتجار والمزارعين سلعهم في المخازن التابعة لوزارة التموين، لتُصنف جودتها رسميا، ثم تُعرض على المنصة وفقا للكميات المُتاحة من كل سلعة، ليُحدد سعرها عبر آلية العرض والطلب، ما يفترض أن ينعكس بالإيجاب على أسعار السلع ويُقلّل الوسطاء على السلع من المنبع وحتى المستهلك النهائي كما يزعمون. وبالفعل أعلنت البورصة هذه عن تخصيص 425 نقطة على مستوى المحافظات لتجميع القمح هذا الموسم.
البورصة هذه شركة تهدف إلى الربح، فهي مملوكة للبورصة المصرية، بجانب الهيئة العامة للسلع التموينية وجهاز تنمية التجارة الداخلية، والشركة القابضة للصوامع والتخزين، ومعهم عدد من بنوك الاستثمار والبنوك التجارية وشركات وكيانات أخرى.. فكيف يتم تحديد سعر احتكاري للقمح ثم في نفس الوقت تدشين بورصة للمضاربة على القمح؟ فإذا كانت هذه البورصة هي من سيحدد السعر الحقيقي للقمح، لماذا أعلنوا هذا السعر الإجباري على الفلاحين؟.. وهل الفلاح المصري بهذا من حقه مثلا بيع قمحه كما يحب أم ماذا؟.. وهل هذه البورصة منافسة للدولة في شراء القمح من الفلاحين أم هما الاثنان يحاصران الفلاحين؟ وما معنى ترك الفلاح لحفنة من المضاربين يهدفون إلى الربح من وراء عرق الفلاح؟.. والقمح الذي تشتريه هذه البورصة أين سيذهب؟ هل ستأخذه للدولة بسعر مثلا أعلى من السعر الذي فرض على الفلاحين؟ أم أن الفلاح المصري على موعد جديد مع ضرب كامل لمحصول استراتيجي مثل القمح، كما حدث خلال العامين الماضيين مع القطن الذي باعوه عبر مزادات خسفت بسعره الأرض ومثّل خسارة فادحة للفلاحين دفعهم للتخلي عن زراعته؟