مثلث في غاية الأهمية يشكل مناط الفاعلية للمواطنة، بما تشكله من فهم صحيح وإدراك قويم وعمل سديد وأصول حكم رشيد؛ يضمن تأسيسا لعلاقة سوية متوازنة بين الدولة والمجتمع، ومنهج نظر رصين يحقق الاستطراق لفكرة الفاعلية؛ التي لم تكن فاعلية الدولة فيها بالخصم من المجتمع ولا فاعلية المجتمع وقوته تنال من قوة الدولة وفاعليتها.
إنه منهج النظر للتعددية والمجتمع المدني والأهلي وفاعلية الفكرة الديمقراطية وتفعيلها لمواجهة الاستبداد، وتمكين البديل اللائق والمناسب لتصب في فاعلية المجتمع والدولة معا، وهو ما يحقق ويمكن بالضرورة لفاعلية
المواطنة وتحصين مسألة الالتزام والحقوق والواجبات فيها؛ بحيث تضمن لها وسطا مواتيا وسياقا متكاملا ونشاطا راشدا فاعلا.
وبهذا الاعتبار قام الحكم البشري بكتابة مقاله المهم حول منهج النظر في البناء الديمقراطي والتعددية؛ كأساس لهذا البناء وقاعدة له، ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي باعتبارها حاضنة أساسية للاستقلالية والتطوعية والفاعلية. إن هذه الرؤية المتكاملة من البشري ليست بعيدة بأي حال من الأحوال عن فكرة المواطنة تفعيلا وتمكينا، بل هي في الصميم منها بما تشكل من بنى أساسية تعد سياقا غاية في الأهمية لتفعيل فكرة المواطنة بكل شروطها، وكل متطلباتها وكل مجالاتها، ما تعلق منها بالحقوق الإنسانية الأساسية وما ارتبط بها من حقوق أساسية مدنية وسياسية، وكذلك جملة الحقوق الجماعية والجمعية التي تعبر عن فاعلية المواطنة في شكلها ووعيها الجمعي.
بهذا الاعتبار يقيم البشري صرحا متينا لفكرة المواطنة والتأكيد على فاعلياتها الواجبة، بحيث تكون تلك المواطنة عبر الجماعة الوطنية وعبر تفعيل مؤسسات المجتمع والأمة؛ سواء بسواء مع مؤسسات الدولة التي تقوم بوظائفها الأساسية في خدمة المواطنين والقيام على ضروراتهم وترقية معاشهم.
كل ذلك إنما يستند إلى تلك الحقيقة الكبرى التي تتعلق بطبعة خاصة في فهم الديمقراطية والبناء الديمقراطي، وطبعة مستوعبة لفكرة التعددية بجوانبها المختلفة، لتؤكد بذلك على فاعلية مؤسسات مجتمع مدني وأهلي بما تقدمه من وظائف جوهرية لإقامة الدولة وتأمين وتمكين المجتمع بقواه الحية القادرة، على أن تحكم علاقة متوازنة بين المجتمع والدولة، فلا تتغول الدولة على المجتمع، ولا يتقاعس المجتمع عن القيام بأدواره في تقوية أركان الدولة، وتشييد كل ما يتعلق بقيامها بوظائفها الجوهرية في مصلحة الوطن والمواطن على حد سواء، ومن هنا تولد المواطنة الحقيقية ما بين كرامة المواطن ومكانة الوطن.
ومن هنا، فإن أصعب ما في حال نظام الدولة القابضة، وما تتصف به وظائفها من شمولية وتسلط، وما تخضع له من مركزية شديدة، وما يغلب عليها من فردية وتشخصن، كل ذلك يؤدي إلى انفراط في التجمعات الشعبية انفراطا يبلغ المدى البعيد، حتى إن تجمعات النسيج الاجتماعي، كالمذاهب والطرق الصوفية ونقابات الحرفيين وتجمعات الطوائف والملل والقبائل، تنتهي، أو أن ما يبقى منها يصير شكلا بغير محتوى قادر على فعل التجميع المنتج.
أما تجمعات الحاضر ذات التشكيلات الحديثة، مثل نقابات العمال والنقابات المهنية واتحادات الطلبة وغير ذلك، فتؤول إلى أن تكون تكوينات شبه مفرغة من القدرة على التحريك الشعبي؛ بعضها تحت الهيمنة الرسمية للحكومة، مثل الجمعيات الأهلية والجمعيات التعاونية التي تخضع للإشراف وللوصاية من جانب الحكومة على أعمالها، ومثل النقابات العمالية التي تغدو تحت الهيمنة الفعلية لأجهزة الدولة العمالية والأمنية، ومن خلال وزارات العمل الداخلية، ومثل اتحادات الطلبة التي تخضع أيضا لهذه السيطرة. وتبقى الأحزاب والنقابات المهنية التي عادة ما تحيط بها الحكومة وإن لم تستطع أن تخضعها لسيطرتها الكاملة، فتصادر إرادتها الانتخابية وحركتها بين جماهيرها.
تشكل هذه الحال قابليات غاية في الخطورة لتمكين حالة استبداد السلطات المختلفة في الفكر والممارسة. وتبدو فكرة الدولتية المريضة صاعدة والوطنية الزائفة متصاعدة؛ فتؤدي بذلك إلى خطر حقيقي على تفعيل فكرة المواطنة، ويصير المواطن تبعا للسلطة تسيره كيفما شاءت.. بلا حقوق ومثقل بكثير من الأعباء والمغارم التي تتفنن السلطة في وضعها على كاهله، فيصير المواطن في ذلك الحال ليس فقط المواطن العبء الذي تتصوره السلطة، ولكنه يشكل في حقيقة الأمر منتهك الحقوق ضمن رؤية تتعلق بالسيد والعبد، فضلا عن تشكيلها لبيئة من اللامبالاة قي حركة المواطن داخل المجتمع والمجالات المختلفة، فيشكل كل ذلك إحكام حلقات الاستبداد والاستعباد، وفتح ملف دراسات الاستبداد الذي لعب دوراً محورياً في تشويه البنى التي تتعلق بمؤسسات الأمة وفاعلياتها.
التربية على الاستبداد في مواجهة التربية الشورية غالباً ما أقصت ثقافة التطوع، وغالباً ما صادرت فاعليات الأمة. التوجهات السلطوية الاستبدادية آن الأوان أن يفتح ملفها، خاصة استناداتها التراثية، ومواجهتها بالدراسة الموضوعية المتأنية من غير نفاق لظواهرنا، ما يفتح الباب لدراسات نقدية ومراجعات لا بد منها.
يبقى ضمن هذه الرؤية للحكيم البشري؛ ضرورة تفعيل مؤسسات الأمة باعتبارها حاضنة وحامية في مقام واحد، وضمان فاعلية المواطنة بما تحققه من رؤية حقيقية لإسهام المواطن بإيجابية، وكذا قدرة المواطن على ممارسة أدواره ضمن حركة مستقلة تعبر عن وجوده في المجتمع والدولة في آن واحد، فترقى مكانة الوطن كلما احتُرمت كرامة المواطن وأدواره الأساسية في النهوض بالمجتمع، واعتباره فاعلا إيجابيا في إنمائه وارتقائه. ومن ذلك ما كان من اهتمام البشري بالمؤسسة الوقفية باعتبارها مؤسسة أمة لا تضمن شأن الطوعية في إسهام المواطن في ترقية مجتمعه، ولكنها تعني في حقيقة الأمر التزامه واستقلاليته ضمن تمكين وتحصين كل ما يتعلق بحقوقه التأسيسية والأساسية وكل ما يرتبط بأدواره الحقيقية.
إن استثمار وتعظيم الإمكانات والفاعليات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني؛ سواء ما تعلق منها بالمؤسسات القديمة أو بالمؤسسات الحديثة الوافدة، على أن يظل المحك في ذلك الفاعلية والنفع المترجم إلى أصول المصالح العامة، وخذلان الفاعليات الوقفية وتأميم علاقة المؤسسة الوقفية بالدولة القومية، وإحداث متغيرات جديدة في المعادلة التي تتعلق بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، واستحداث مؤسسات لا تستجيب للحاجات المجتمعية الحقيقية..
عمليات بعضها من بعض ولا بد أن تحرك أفقا للبحث يضع المؤسسات الفاعلة في الحسبان، والعمل على التمكين لها أثراً وتأثيراً. إن البحث عن/ وفي علاقة المؤسسات التقليدية في المجتمع الأهلي بالمؤسسات الحديثة في المجتمع المدني، ومنها بالضرورة الوقف، ربما يثير التساؤل حول لماذا لم تمد الجسور تواصلاً بينهما؛ بل قامت تلك المؤسسات الحديثة وربما أيضاً لم تسع القديمة إلى التواصل والتفاعل، فوجدنا مؤسسات المجتمع المدني تقطع صلة رحمها بمؤسسات تردف بعضها بعضاً، وأدارت ظهرها لمؤسسات تتقاطع معها في الوظائف والأدوار لكونها مؤسسات ارتبطت تقليدياً بالحضارة الإسلامية، بينما هرولت لبناء علاقات عبر قومية ودولية مع مؤسسات شبيهة لها من الخارج وفيه.
ومن هنا تبدو هذه الرؤية التي تتعلق بالحكيم البشري في فاعلية المواطنة، عبر فاعلية مؤسسات الأمة كفكرة تأسيسية في المواطنة لا تقل عن اجتهاداته في أفكار مثل الجماعة الوطنية والمدخل المؤسسي في الولايات، وكذلك كل ما يتعلق بالأطر المتوازنة للعلاقة السوية بين الدولة والمجتمع ضمانا لفاعليتهما معا، ودون أن يكون أي منهما خصما من دور ومكانة الطرف الآخر في هذه المعادلة.
ومن هنا يبدو أن الحكيم البشري دائما يمسك بميزان عدل بروح القاضي، مستلهما خبرات التاريخ ومؤكدا على حقائق أساسية في ما يتعلق بجوهر وظائف الدولة وجوهر حقائق المواطنة، من دون أن يجور أحدهما على أدوار كل منهما ضمن ميزان؛ دائما ما يذكرنا به الحكيم البشري، ميزان الفاعلية في الدولة والمجتمع، في الوطن- الدولة، والمواطن- الإنسان.
twitter.com/Saif_abdelfatah