تقارير

سياسي تونسي: فلسطين شكلت وعينا السياسي الحديث والمعاصر

أنور الغربي: فلسطين كانت جزءا أساسيا من وعينا السياسي في تونس (عربي21)
أنور الغربي: فلسطين كانت جزءا أساسيا من وعينا السياسي في تونس (عربي21)

تنشر "عربي21" في قسم "فلسطين الأرض والهوية"، توثيقا أسبوعيا لفلسطين، كما تبدو فكرة ومفهوما في أذهان المثقفين والسياسيين والنشطاء الحقوقيين في العالم.. على اعتبار أن هذه الكتابات هي جزء من وثائق التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر.

اليوم ننشر رأي أنور الغربي مستشار الرئيس التونسي الأسبق للشؤون الدولية، عن القضية الفلسطينية.

هكذا بدأ وعيي بفلسطين

الحديث عن فلسطين في الوعي الجمعي التونسي ذو شجون، حيث إننا في تونس نشأنا على حب فلسطين، ليس فقط لأنها بالأساس آية من آيات الكتاب قبل أن تكون قضية تحرر وطني دعمتها كل القوانين الدولية، واستحالت بفعل بطولات شعبها في الصمود والتمسك بأرضهم على مدار عقود الاحتلال التي أعقبت النكبة إلى أيقونة لكل أحرار العالم. ولا أبالغ إن قلت إن فلسطين شكلت وعينا السياسي الحديث والمعاصر في تونس. 


لم أكن من أبناء الجيل الذي واكب نكبة الشعب الفلسطيني وعايشها، فأنا واحد من أبناء جيل شهد آثار النكبة وتداعياتها التي لا تزال تلقي بظلالها على الفلسطينيين خاصة، وأهل الشرق الأوسط والعالم بشكل عام.. فقد بدأ وعيي بالقضية الفلسطينية يتشكّل مبكرا حيث كنت من رواد دور الشباب والثقافة، أين كانت تنعقد الأمسيات الشعرية والأدبية والفكرية والفنية. كما ساهمت الكشافة التونسية في بناء شخصيتي والتعويل على الذات لخدمة المجموعة.

وفي بداية الثمانينيات، كنت من رواد نادي الفكر ونشطائه، داخل معهد أبي القاسم الشابي بمدينة الشابة الساحلية، أين كانت تنعقد حلقات النقاش والأنشطة الثقافية. وكان أكثر ما يثير إعجابي وفضولي حينها، هو ما يصل إلينا عبر الأثير من صمود الشعب الفلسطيني والتغني بالعمليات الفدائية لمقارعة الاحتلال.

ولعل أكثر مشهد بقي عالقا في ذهني وأثّر في مسيرتي لاحقا، هو عملية إخراج رجال المقاومة الفلسطينية بعد حصار بيروت سنة 1982. فقد كنت أتابع صحبة عدد من الأقارب والجيران، عبر شاشة صغيرة الحجم باللون الأبيض والأسود، مشاهد وصول السفن العملاقة التي تحمل "رجال الصمود" إلى أرض تونس والجزائر. وكانت الاحتفالات الرسمية والشعبية مؤثرة لدرجة أن والدي ـ رحمه الله ـ كان بالكاد يخفي دموعه وهو في غاية التأثر والتركيز على تفصيلات الوصول، ويتابع تلويح الجموع بإشارات النصر.

ودخلت الجامعة خريف 1985 وانخرطت منذ الأسابيع الأولى في النشاط الطلابي كمستقل تحت لافتة الاتحاد العام التونسي للطلبة. وبعد مرور أسابيع قليلة وقبل أن أتعرف على الجزء الجامعي الذي أنتمي إليه، وصلت إلينا اخبار صادمة مفادها قصف إسرائيل لحمام الشط أين يقيم عدد كبير من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتدمير عدة مبانٍ، واستشهاد ما يزيد عن 100 شخص بين فلسطينيين وتونسيين. وتحركت الجامعة التونسية بقوة وأُعلن الإضراب العام، ووجدت نفسي في الخطوط الأمامية للاحتجاجات والمحاور الرئيسية لإدارة الجزء الجامعي الذي أنتمي إليه.

وبسرعة، توطدت علاقتنا بالهلال الأحمر الفلسطيني وبمكتب منظمة التحرير ووكالة الأنباء الفلسطينية التي كانت تمدنا بما نحتاجه من صور وتقارير إعلامية للتعريف بالقضية، وقد تزامن نشاطنا الطلابي أيضا مع انطلاق شرارة الانتفاضة الأولى، وزاد اهتمام الناس واشتعال التحركات من جديد التي زادها قوة السلوك العدواني لإسرائيل على الأراضي التونسية. 

وفي سنة 1988 كنت مع فريق إعداد أسبوع الجامعة في تونس العاصمة، لما وصل إلينا خبر اغتيال أبو جهاد خليل الوزير، ومن جديد وجدت نفسي في الواجهة، خاصة أني كنت الممثل الأول للطلبة في المجلس العلمي.  

ورغم أن الأجواء السياسية في تونس كان يشوبها شيء من الانفراج والانفتاح الظاهري؛ على إثر تسلّم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي لزمام الأمور في البلاد وحديثه وحاشيته عن التغيير والانفتاح وحرية التعبير، فإن تحركاتنا كانت قوية وأوقفنا الدروس وأبلغنا رسائل الاحتجاج للسلطة باعتبارها المسؤولة عن أمن الفلسطينيين وحمايتهم. ولكن كل ذلك لم يمنع إسرائيل من القيام بجريمة أخرى واغتيال قياديين من منظمة التحرير سنة 1990.

وبعد اشتداد القمع والملاحقات في تونس، غادرت البلاد سنة 1991 لأستقر في جينيف وآليت على نفسي عدم الانخراط في أي نشاط لمدة سنتين، لحين فهم الساحة الجديدة والتمكن من لغة القوم والاستقلالية المادية. وكان من الصعب الالتزام بالتوقف عن النشاط، خاصة مع اندلاع الحرب في البوسنة والربط الدائم بما يحدث في فلسطين، وتزايد الحديث عن أهمية وضرورة إيجاد حل دائم وعادل، وبخاصة عند التعرض لاتفاقيات أوسلو وما تبعها من أحداث.

وانخرطت في النشاط العام مجددا وانتميت لنقابة العمال، ووجدت نفسي في حملات توعوية مواطنية، مكنتني من التعرف عن قرب على العديد من الشخصيات السويسرية التي كانت في السلطة حينها، ولعلاقتي بفلسطين في سويسرا قصة تحكى..

* الأمين العام لمجلس جينيف للعلاقات الدولية والتنمية


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم