بقدر ما استوقفتني الجملة الأولى من بيان
الحركة المدنية الديمقراطية، طويلا، بقدر ما جعلني مجمل البيان أُعيد التفكير في المهام الأولى لأية حركة سياسية. ففي جملته الأولى أعرب البيان عن دعم "الحركة" الكامل "لكل توجه يستهدف الحفاظ على حقوق
مصر في نهر النيل"، فمن ذا الذي سيمرر "كل توجه" هذه دون أن يفكر في ما يمكن أن تفضي إليه من خيارات وتوجهات؟ أما تتمة الجملة فمحيرة أكثر، فإذا يأتي "البشر" في نهاية ما يرويه النيل، فتسبقهم؛ بحسب كاتب البيان: الحضارة والأرض والزرع، ترتيب مختل بلا شك، فأية قيمة لكل هذا بدون البشر؟
كل توجه؟! قد يرتفع صوت ليقول: إن صمتكم، وسكونكم هو التوجه المطلوب، واتركوا الأمر للقائد ليخوض "المعركة"، ولا تشوشوا عليه. وقد يفسرها ثانٍ بأن بيان "الحركة" دعم لدعوات التظاهر في ما يعرف بـ"ثورة النيل- 10 يونيه"، وثالث قد يراها تفويضا بالحرب. وفي الواقع اعتبر "كل توجه" هذه أشبه بإبراء الذمة، أو اللا موقف، وإذ أواصل التفكير في باقي البيان يتكشف لي مدى تعبيره عن ضبابية دور الحركة السياسي، أو بتعبير آخر نظرتها لدورها.
ينشغل البيان كثيرا بتفنيد ونقد الموقف الإثيوبي من مفاوضات
سد النهضة، ويعتبره "تهديدا وجوديا يمس الحق في الحياة"، للمصريين والسودانيين، وهو تشخيص كاف، إذ لا قيمة بعد ذلك للحديث عن: السيادة والمكانة والتاريخ والجغرافيا والقانون الدولي، لكنه يتجنب تفنيد ونقد موقف السلطة في مصر من ذلك التهديد الوجودي، ويختبئ خلف دعوة "الإدارة المصرية ومجلس النواب إلى مراجعة أي اتفاقيات أو تفاهمات أو أطر خاصة بهذه المفاوضات". البيان لا يعلن موقفا من كل إجراءات وسياسات الدولة ومؤسساتها، يدعوها فقط وبخجل للمراجعة.
الأخطر أن الحركة إذ تدعو السلطة لمراجعة سياستها، فإنها تريد أن يكون ذلك وفق "الإطار المرجعي الذي يقره القانون الدولي الخاص بالإدارة المشتركة للنهر وضرورة احترام الاتفاقيات الدولية"، وهي بذلك تكشف عن مدى "جهلها" بتاريخ المسألة، وبمدى الفشل المركب الذي يكتنف سياسات الدولة تجاه الأمر، ففشل سلطة الرئيس عبد الفتاح
السيسي في التعامل مع ملف نهر النيل متواصل وتراكم لفشل الرئيس الراحل حسني مبارك.
النص الحاسم والجوهري في ما يتعلق بالقانون الدولي هو الاتفاقية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيار/ مايو 1997، والمسماة "اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية"، وقد تحفظت مصر عليها ورفضت توقيعها، وقد دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في عام 2014.
في رفضها للاتفاقية بينت مصر أنها "لن تكون ملزمة إلا بالقواعد العرفية المستقرة"، وأنه "لا يمكن لمثل هذه الاتفاقية الإطارية أن تؤدي بحال من الأحوال إلى التأثير على الاتفاقات الدولية الثنائية أو المتعددة الأطراف المتعلقة بأنهار بذاتها"، أي أنها لا ترى لزاما عليها إلا المعاهدة المعقودة بين بريطانيا والحبشة في 1902 حول نهر النيل الأزرق وبحيرة تانا والسوباط، والتي تعهدت فيها الحبشة طبقا لنص المادة الثالثة منها؛ بعدم إقامة أو السماح بإقامة منشآت هندسية على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها التأثير على مياه النيل بدون اتفاق مسبق مع السودان.
ما أريد تبيانه هنا، في ما يتعلق بمسألة القانون الدولي، ثلاثة أمور؛ الأول أن كاتب البيان ليس على معرفة دقيقة بالموقف القانوني المصري الرسمي، والذي يتميز بالضعف، والثاني وهو الأهم أن ذلك الضعف يتحمل مسؤوليته المباشرة الإدارة الفاشلة لسياسة مصر الخارجية تجاه نهر النيل طوال فترة حكم مبارك. أما الأمر الثالث فيتعلق بالتدليس الفاضح الذي يلوكه السيسي بحديثه الكاذب عن أن 25 يناير هي المسؤولة عن ضعف الموقف المصري تجاه إنشاء سد النهضة، فخلال مناقشات الاتفاقية الدولية وعقب إقرارها فشلت مصر في تعديل توازن القوى القانوني المختل، ودخول الاتفاقية عام 2014 عزز موقف إثيوبيا، وكلاهما، كما هو جلي، لا دخل ليناير به.
تدليس السيسي يستهدف حجب أي تقيم لسياسات مصر بين عامي 1997 و2014، وبالأساس خلال حكم مبارك. فخلال مفاوضات مصر مع دول حوض النيل اتسم المفاوض المصري بالضعف وعدم التوازن، فقد قادت المؤسسات الأمنية، منفردة، المفاوضات ووضعت استراتيجيتها وتكتيكاتها، ما أفضى لفشل ذريع.
بيان الحركة المدنية الديمقراطية، الصادر قبل أيام قليلة، يكشف عن إيقاعها الرتيب، كأنها باحث مبتدئ يعد بحثه السياسي التمهيدي. وإذ يخطو ذلك الموقف قليلا، يندفع في أحكام مراهقة مفرطة في عدم المسؤولية، فالبيان يخلص إلى أن "نوايا حكام أديس أبابا في التحكم في النهر ومحبسه، وإضعاف وتهميش وتقزيم دول المصب، أشبه بإعلان حرب"، ولذلك فهو يؤكد حق مصر "المشروع في استخدام كل موارد القوة، بما في ذلك القوة العسكرية، للدفاع عن الحق في المياه والحياة، في إطار الحق الشرعي في الدفاع عن النفس".
هذا مجمل البيان، الآن لنفكر في المهام الأولى لأية حركة سياسية.
المهمة الأولى، بحسب رأيي طبعا، هي تقييم سياسات السلطة وتحديد موقف منها. في البيان تتقاعس الحركة عن القيام بهذه المهمة، كأنها تريد أن تقول مثلا عاميا "هذا الله، وهذه حكمته"، أو أنها تضمر القول: "هذه سلطة غشوم، فاشلة، يا ريت تراجع سياستها، وماذا يمكننا أن نفعل معها سوى دعوتها لذلك".
هل بقيت حاجة للحديث عن باقي المهام، مثل الوصول للسلطة، والعمل على سياسات بديلة، أو على الأقل المطالبة بفتح المجال للحديث عن مسائل هي بحسب تقدير البيان متعلقة بتهديد وجودي يمس الحق بالحياة لكل المصريين؟ قد يكون المجال لا يتسع لتوضيح كل هذا، لكنه يتسع بلا شك لنقطة أخيرة، وهي السطر الأخير من البيان، فالحركة المدنية تؤكد "وحدة الشعب المصري بكل تياراته في مواجهة التهديد لحقه في الحياة والمياه والسيادة"، وهو ما أعترض عليه وبشدة، فسياسات السيسي لا ينتظر منها العمل في هذا الاتجاه، ولتعزيز وحدة الشعب المصري في مواجهة أية أخطار لا بد من العمل على بناء سياسات بديلة، وإلا فالخطر آت لا محالة.
بيان الحركة المدنية الديمقراطية هو في واقع الأمر دعوة للسكون وإبراء للذمة وقبول بالأمر الواقع، وهو ما يجعل من سد النهضة الإثيوبي مفتاحا لخراب حال لو استمر الحكم في مصر على هذا الحال.