هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا أحد يربح كل شيء. الحياة اختيارات، وعند اختيار شيء فلا بد من التضحية بآخر. يسري ذلك على السينما مثلما يسري على غيرها.
لذلك ربما يكون صانع الفيلم الذكي هو مَن يحسن اختيار مكونات عمله واعيا بخسارته مكونات أخرى، مقللا من آثار الخسارة، معوضا إياها باستخراج أفضل ما في اختياراته.
هكذا فعل صناع فيلم "Nomadland" (أرض الرحّالة) الذي تعاونت مخرجته وكاتبته كلوي تشاو مع نجمته وأحد منتجيه فرانسيس مكدورماند.
اقتبست تشاو السيناريو من كتاب بالاسم ذاته للصحفية جيسيكا برودر، وهو يتناول حياة مجموعة من المسنين في الغرب الأمريكي، يعيشون في شاحناتهم "الفان"، بعد فقدان ثرواتهم في أزمة الرهون العقارية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي ثم العالمي سنة 2008، وكان من نتائجها ضياع ثروات ملايين البشر، وفقدان كثير من الأمريكيين بيوتهم، التي اشتروها وفق نظام القروض العقارية.
للفيلم صبغة أنثوية رقيقة، نستطيع أن نقول إنه يأخذنا إلى عالم نرى فيه الأشياء بعيون امرأة. ربما يمكننا تأمل مسألة الاختيار مرة أخرى. فحين انحاز صناع الفيلم إلى إغواء الترحال واستكشاف الأماكن الجديدة، وتأمّل معاناة البشر وأحلامهم، ومداعبة الحلم الإنساني القديم بالرجوع إلى حضن الأم الكبرى: الطبيعة... حين انحاز صناع الفيلم إلى ذلك، أدركوا أنه لا بد من خسارة مكونات فنية أخرى، مثل الحبكة المؤسسة على صراع يتصاعد بإحكام، وفق حركة شخصيات مبنية بدقة وتتطور وفق خطة ذكية.. لا مجال لتوتر درامي ولا تشويق يشبه تشويق "بريكنج باد" أو "جيم أف ثرونز".
وإذ أدرك صناع الفيلم ذلك، عمدوا إلى تحرير أقصى الإمكانات الفنية المتاحة لهذا الجانب الإنساني، ذي الطبيعة الشعرية المفعمة بالعواطف والتأملات والأحلام والاحتفاء بالطبيعة في صورتها البكر، البريئة من ملوثات الحضارة.
في ظني كان ذلك الاختيار ذكيا للغاية، لأنه أطلق أجمل مكونات الفيلم: كادرات رائعة للمساحات المفتوحة في الغرب الأمريكي، تجلو فتنة الصحارى الرحبة، ومشاهد الغروب الساحرة في سماء صافية وساحرة الألوان الشفقية.
بل ربما يمكنني القول إن تشاو لعبت على تلك الفكرة، حين عمدت إلى تصوير مشاهد الأبطال داخل شاحناتهم في كادرات مظلمة، توحي بأجواء الزنازين الضيقة، المعتمة، ثم تنجلي المفارقة فور الخروج من الشاحنة، حيث الكادرات المفعمة بالضياء والبراح اللامتناهي للسماء والأرض.
ولعل ذلك أيضا ما دفع تشاو إلى اعتماد نهج غريب للغاية عن نهج هوليود، وهو مشاركة شخصيات حقيقية من هؤلاء الرحل المسنين في الفيلم، وتقديمهم ليمثلوا لأول مرة ويحكوا حكاياتهم بأنفسهم.
بالطبع لا ندري إن كانوا قد تلقوا بعض تدريبات الأداء أم لا، لكن قد لا يتصور من لا يعرف تلك المعلومة أن هؤلاء الممثلين يقفون للمرة الأولى في حياتهم أمام الكاميرا، ربما لأنهم لا يؤدون أدوارا بل يعيشون حياتهم باعتبارهم رُحّلا حقيقيين، ويحكون ما دفعهم إلى هذه الحياة؛ سواء أزمة الرهون العقارية أو غيرها.
ما دامت تشاو ستضحي بالسيناريو المشوق الذي يخطف الأنفاس، وما دامت ستنحاز لما هو إنساني، فطري، طبيعي، بسيط، فلماذا لا تستعرض الأنماط الإنسانية الفريدة لهؤلاء الرحّالة؟ بالطبع ساهم ذلك في إبطاء الإيقاع لكنها عوضته بحكايات مزلزلة، مثل حكاية المرأة التي أرادت تحقيق حلم زوجها الذي مات فور تقاعده، وقبل أن يحقق حلمه بالإبحار بزورق في المياه الزرقاء الرحبة، أو حكاية العجوز الذي انتحر ابنه الشاب فلم يستطع تحمل الصدمة إلا بالانطلاق في الترحال لأنه رآه الوسيلة الوحيدة لمنعه من قول كلمة وداع نهائية مثلما فهمه؛ فدائما ما يلتقي بأصدقائه الرحالة على الطرق أو في الساحات، وحين يفترقون يودعون بعضهم بالقول "أراك ثانية على الطريق"، لأنهم يعودون للالتقاء مصادفة على طريق آخر، أو في ساحة تخييم أخرى. لا أحد يقول وداعا على نحو نهائي!
هذه الرؤية المفعمة بالشعرية والانتصار للخيال أَثْرَت الفيلم وعوّضت ما خسره من التشويق الدرامي، فجعلته سردا شعريا قادرا على التلاعب بالمعاني واستكشاف صور جديدة مدهشة. يمكننا مثلا تأمل فكرة استعمال الدلاء باعتبارها مرحاضا للرحالة الذين لا يملكون دورات مياه في شاحناتهم الفقيرة؛ تسخر الرحالة سوانكي من استخدام الدلاء خلال عرض ساخر بسيط تقدمه للرحالة المخيمين في الساحة، حيث تستعرض أحجاما مختلفة من الدلاء: فالكبيرة منها تصلح لمن يعانون من مشكلات في ركبهم لأنها مريحة في الجلوس.. يضحك جمهورها البسيط ونضحك معهم بلا تكلف، مندهشين من الكيفية التي يبتكر بها هؤلاء المسنون إمكانات أفضل لحياتهم، ومن الأساليب البسيطة والمبتكرة للتضامن ومساعدة بعضهم بعض.
واتساقا مع هذا التكوين الشعري، اختارت كاتبة الفيلم رؤية الرحالة سوانكي لتجلو قصيدتها، فسوانكي مريضة بالسرطان، وتعلم أن نهايتها وشيكة، لذا لا تضيع وقتها في الحياة داخل بيت، بل تتجول وتنغمس في الطبيعة. تحكي سوانكي كيف شعرت بالرضا عن حياتها لأنها في جولة سابقة رأت جرفا مائلا فوق نهر، حيث تعشش طيور السنونو.
اقرأ أيضا: أنتوني هوبكنز والأوسكار والدراما الرمضانية!
انطلقت تدور حول سوانكي ومن فوقها وتحتها لأنها كانت فوق جرف مرتفع.. شعرت سوانكي في خضم السحابة الطائرة أنها تطير بين السنونو؛ هكذا حققت حلمها، وصارت مستعدة للموت، فقد عاشت الحياة كما تتمنى!
تلك هي لعبة الفيلم: كيف نحول الشاشة إلى قصيدة يؤلفها هؤلاء الرحالة؟ وكما تتداخل الأجناس الأدبية مع فن الشعر، تداخلت الأنواع الفنية في الفيلم أيضا ما بين التوثيق وما يعرف بأفلام الطريق والدراما؛ فقد اتكأ على جماليات الفيلم الوثائقي عبر توثيق حياة هؤلاء الرحالة وظهورهم ليحكوا حكاياتهم الحقيقية، لا المتخيلة سينمائيا، كما نهل من جماليات أفلام الطريق التي تتبنى منظور أشخاص يغادرون بيوتهم ويعيشون على الطرق والنزل حيث يتغير منظورهم للحياة.
أيضا اعتمد الفيلم على نوع من "الدراما"، عبر نسج حكاية صداقة (مرشحة لتصبح حبا) بين فيرن "البطلة التي أدت دورها مكدورماند" وديف أدى دوره "ستراثيرن"، لكن الحكاية انتهت بافتراقهما حين اختار ديف الركون إلى الحياة في منزل ابنه بينما اختارت فيرن إكمال حياتها مترحلة في المنطقة التي عاشت فيها مع زوجها قبل موته، لعلها تُبقي ذكراه حية بحياتها قرب بيتهما القديم. في تقديري لم يكن الجانب الدرامي مبهرا، فقد استحوذت قصص الرحالة واستكشاف الفضاءات المكانية الرائعة على بناء الفيلم، كما كانت نتيجة الصراع متوقعة: أن تختار فيرن الانحياز لحياة الترحال.
بالطبع لا يمكنني تجاوز أداء مكدورماند الاستثنائي. حين نشاهدها نعتقد أنها رحالة حقيقية مثل سائر الرحالة المشاركين في الفيلم.
يصعب أن نجد لها إيماءة أو نظرة صامتة في غير موضعها، كما يصعب أن نلحظ ظلا لانفعال مصطنع أو حتى صرخة واحدة، رغم الظلم الهائل والتعاسة التي وقعت ضحية لهما بفقدان زوجها ومدخراتها وبالتالي بيتها!
فاز الفيلم بنصيب الأسد من جوائز الأوسكار في حفلها الثالث والتسعين، فنال جائزة أفضل فيلم، ونالت تشاو جائزة أفضل مخرجة لتكون ثاني امرأة في تاريخ الأوسكار وأول ملونة تفوز بالجائزة، كما فازت مكدورماند بجائزة أفضل ممثلة لتحرز ثالث جائزة لها بعد فيلم "Fargo" وفيلم "Three Billboards Outside Ebbing Missouri".