قضايا وآراء

الصمت الذي يحجب السد ويقويه

ماهر البنا
1300x600
1300x600
راجعت سريعا ما خزنته ذاكرتي عن سد النهضة الإثيوبي، خلال عام مضى، بحثا عن الكلمة الأكثر تداولا في الأخبار والتعليقات التي يبديها المصريون الذين يتابعون القضية، فوجدت أن هناك ثلاث كلمات تتنازع الصدارة، وهي: الجمود، التعثر، الصمت. وعندما محصت الأمر مجددا، كان الصمت قد انتزع الصدارة بفارق ضئيل عن منافسيه.

الفرق بين الجمود والتعثر ليس هينا، ففي الواقع أن التعثر يعقب موجة تفاؤل - قصيرة للغاية - بأن تحقيق تقدم في المفاوضات بين أطراف النزاع الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) بات وشيكا، ثم يعقبها الجمود، فموجة قصيرة من التفاؤل. وتتكرر الدورة بإيقاعات متنوعة، وهو ما دفع قطعات عريضة من الرأي العام المصري إلى حيرة مضنية بشأن ما تزمع الحكومة فعله إزاء رتابة تكرار هذه الدورة، رتابة تبدو كعقاب للمصريين، ما يجعلها تتشابه إلى حد ما، شكليا بالطبع، مع حكاية سيزيف - أكثر الشخصيات مكراً، والتي ترمز للعذاب الأبدي؛ بحسب الميثولوجيا الإغريقية - الذي عُوقب بأن يظل يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا إلى الأبد. لكن رتابة دورة: تفاؤل، تعثر، جمود، خالية من أي نزوع بطولي كذلك الذي ميز أفعال سيزيف التي عُوقب عليها.
وجدت أن هناك ثلاث كلمات تتنازع الصدارة، وهي: الجمود، التعثر، الصمت. وعندما محصت الأمر مجددا، كان الصمت قد انتزع الصدارة بفارق ضئيل عن منافسيه

وإذا كان ذلك التشابه الشكلي له وجاهة ما، فإن رأي ألبير كامو في أسطورة سيزيف يضيف بعدا فلسفيا لتك الدورة الرتيبة ذات الحركات الثلاثية، فهو يعتبر أن سيزيف يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، فليس هناك عقاب أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه. ومفاوضات السد الإثيوبي تكتسب يوما بعد آخر، في نظر بعض المصريين، بعض تلك الصفات التي أسبغها كامو على سيزيف وحكايته الرمزية الأسطورية.

وهكذا يبدو أن الصمت حول مفاوضات السد الإثيوبي؛ على الرغم من فقدانه أي بعد من هذه الأبعاد، إلا أنه واقعيا يغلفه بضباب كثيف ويحجبه عن المصريين وربما يقويه ويحميه. والمساهم الأبرز في تخليق ذلك الصمت هو الحكومة المصرية، وقد اصطف خلفها منذ البداية مناصروها؛ من إعلاميين وسياسيين. وكلما زادت خطورة تعثر المفاوضات تكاثف ذلك الصمت، في حين تبرز بوضوح خطورة أثر موقف الحكومة الإثيوبية على مكانة مصر محليا وإقليميا ودوليا، وانحصار حدود العمل الدبلوماسي المصري وافتقاده للجرأة والخيال، ثم بروز التلويح بالعمل العسكري، مع جزم بعض المعارضين بضرورته، واعتباره الحل الوحيد، وليس النهائي.

أظن أن لا حاجة لتكرار ما أوضحه خبراء الري من خطورة احتكار دولة المنبع السيطرة على مجرى نهر النيل الأزرق وما يصل منه إلى كل من السودان ومصر، ومصر بالأخص، فقد تكون فرص السودان أفضل في التعويض من مصادر أخرى، بينما تنعدم مثل هذه الفرص بالنسبة لمصر.

وفي ما يتعلق بمعضلة الصمت يظهر تباين الموقفين المصري والسوداني، فالأشقاء في السودان، سواء أفي الحكومة أو الخبراء والإعلاميين والسياسيين، يظهرون شفافية لافتة في التعامل مع مفاوضات السد، حتى ليبدو الأمر وكأن المعلومات الأدق هي تلك التي تصدر من هناك.
يتجاوز أثر الصمت المدمر حتى حدود مصر والسودان، فإخفاق البلدين في التوصل لتسوية منصفة من خلال اتفاق قانوني ملزم له أبعاد دولية، تبدو لبعض البلدان التي تتشابه مواقفها مع موقف مصر والسودان، كارثية. فإثيوبيا إذا حققت أغراضها ستخلق سابقة دولية، قد تساهم في طرح فكرة الأنهار الدولية جانبا

وفي هذه النقطة (أي خطورة احتكار دولة المنبع السيطرة على مجرى النهر) يتجاوز أثر الصمت المدمر حتى حدود مصر والسودان، فإخفاق البلدين في التوصل لتسوية منصفة من خلال اتفاق قانوني ملزم له أبعاد دولية، تبدو لبعض البلدان التي تتشابه مواقفها مع موقف مصر والسودان، كارثية. فإثيوبيا إذا حققت أغراضها ستخلق سابقة دولية، قد تساهم في طرح فكرة الأنهار الدولية جانبا، خاصة للدول التي لم تصدق على اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الأنهار الدولية، مثل روسيا والصين والهند (إثيوبيا هي الأخرى لم تصدق على الاتفاقية، ومن هنا بعض قوة موقفها)، بحيث يكون من الممكن، والمقبول، أن تنفرد دولة منبع النهر بأن تتصرف فيه دون مراعاة لمصالح الدول المشاطئة له. والمحزن أن بلدين عربيين هما في رأس قائمة الدول المرشحة لهذا المصير، وهما العراق وسوريا، فتركيا هي دولة المنبع لدجلة والفرات.

أما الأثر الأبعد الذي يتجاوز الدول العربية والمنطقة في حال فشل المفاوضات ونجحت إثيوبيا في تحقيق مرادها، فهو المساهمة في إضعاف القانون الدولية والعدالة على مستوى العالم.

من هنا يظهر أن مصر والسودان لا يخوضان معركتهما فقط، بل إنهما يفعلان ذلك بالنيابة عن أشقاء في المقام الأول، وعن قيم إنسانية موضوعية بعد ذلك، ولهذا سيكون للشك في خطورة الصمت ودورة الرتابة "السيزيفية" هذه وجاهة ملحوظة. وقد ألمح بعض الخبراء إلى أن السد الإثيوبي ما هو إلا تجربة لتوجهات وسياسات البنك الدولي الرامية إلى تسعير المياه على مستوى العالم.
يتبقى من مناقشة معضلة الصمت تفنيد أن مبرره الرئيس هو إبقاء الخيارات المصرية موضع غموض لدى الجانب الإثيوبي، وقد تهاوت هذه الحجة بكثرة التلويح والتهديد بالقيام بعمل عسكري من قبل رئيس الدولة، ما أفقد هذا التلويح والتهديد الكثير من مصداقيته

وتتعاظم خطورة الصمت الحكومي والمطالبة بأن يلزمه كل المصريين مع استمرار افتقاد الدبلوماسية المصرية للجرأة والخيال، وإحجامها عن الاستفادة من رصيدها الدولي الثري. فهناك ضرورة إلى تخصيص جهد أكبر، وعلى أعلى المستويات في الدولة للاتصال بكل الحكومات الأفريقية لشرح وجهة النظر المصرية، وصولا إلى مطالبة جمعية رؤساء الدول والحكومات ببحث تعثر المفاوضات ومجمل نقاط النزاع حول السد؛ لكونه يهدد الأمن والسلم في ثلاث من الدول الكبرى في الاتحاد الأفريقي، وتكرار دعوة مجلس الأمن للانعقاد لبحث أزمة يمكن أن يفضي تفاقمها إلى تهدد الأمن والسلم الدوليين في المنطقة بأسرها، وربما دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لبحث الموضوع أيضا. وأخيرا، الاتصال بالحكومة الصينية باعتبارها مساهمة بشكل رئيسي في بناء شبكة نقل كهرباء السد، ودعوتها للتأثير على موقف الحكومة الإثيوبية المتعنت؛ لما للعلاقات الثنائية بين مصر والصين من تاريخ حافل، وباعتبار أن مصر أول دولة في أفريقيا اعترفت بحكومة الصين الشعبية في 1956 عندما كانت تقاطعها أغلب دول العالم غير الشيوعي.

يتبقى من مناقشة معضلة الصمت تفنيد أن مبرره الرئيس هو إبقاء الخيارات المصرية موضع غموض لدى الجانب الإثيوبي، وقد تهاوت هذه الحجة بكثرة التلويح والتهديد بالقيام بعمل عسكري من قبل رئيس الدولة، ما أفقد هذا التلويح والتهديد الكثير من مصداقيته، إذ أعقبته دورة رتابة ومفاوضات أكثر عقما من سابقاتها؛ فالتهديد باستخدام القوة ثم النكوص عن تنفيذه والذهاب للتفاوض يفقده تأثيره، وينزع عنه عنصر المفاجأة، ويكسب الحكومة الإثيوبية المزيد من الشعبية داخليا، ويعزز من مكانتها المتنامية أفريقيا، ويمنحها أداة دعائية جذابة دوليا. وواضح للغاية أن كل هذا يمثل خسارة لأي مفاوض في مفاوضات مصيرية كهذه.

التعليقات (0)