دخلت في نقاشات مع عدد من الأسر العربية المقيمة في المهجر وفي الدول العربية، وتطرق الأمر لمسألة تعليم الأبناء
اللغة العربية أو بالأحرى الاهتمام بها. ولما كان معظم النقاش العام في هذه القضية ينصب على مسائل تتعلق بالهوية والدين بالأساس، لاحظت غياب عنصر آخر يتعلق بالاستفادة المباشرة للأجيال الجديدة من مسألة إتقان اللغة العربية في ما يخص مستقبلهم وعملهم. وهو الهاجس الذي يدفع عددا كبيرا من الأسر للاهتمام بإتقان أبنائهم للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية.
في البداية لا بد من التسليم بحقيقة أن اللغة العربية الفصحى ليست لغة الحوار في الدول العربية، وأن اللهجات المحلية هي اللغة السائدة والتي تتقاطع مع اللغة العربية الفصحى في ألفاظ كثيرة لكن بقواعد وتصريفات مختلفة تماما. وبالتالي يصعب على غير المؤهلين بدرجة معينة من التعليم التحدث باللغة العربية الفصحى بشكل سليم، الأمر الذي يعني أن إتقان اللغة العربية لم يعد مرتبطا بمنهاج التعليم، وإنما باجتهاد بعض المدرسين الذي يحببون الطلاب مشكورين في هذه اللغة السامية أو باجتهاد بعض العائلات الواعية لأهمية اللغة.
تتعاظم كل يوم القطاعات التي تتطلب إتقان اللغة العربية مما يدفع كثيرين من خريجي التعليم الأجنبي لأخذ دورات لتحسين اللغة العربية، من دون أن يصاحب هذا توعية مسبقة بالفائدة الاقتصادية والمهنية توفر عليهم مثل هذه الدورات اللاحقة
كان كل هذا قبل أن يزحف التعليم الأجنبي على العالم العربي ويسحب ما في جيوب الأسر من مدخرات سعيا وراء تأمين مستقبل أفضل للأبناء وتأمين وسيلة صعود طبقي واجتماعي، وهو ما زاد من غربة اللغة العربية بين أبنائها.
تتعاظم كل يوم القطاعات التي تتطلب إتقان اللغة العربية مما يدفع كثيرين من خريجي التعليم الأجنبي لأخذ دورات لتحسين اللغة العربية، من دون أن يصاحب هذا توعية مسبقة بالفائدة الاقتصادية والمهنية توفر عليهم مثل هذه الدورات اللاحقة.
فعلى سبيل المثال، سيبقى قطاع الترجمة في مختلف المجالات يطلب مترجمين في كافة التخصصات العلمية والأدبية والصناعية، سواء على مستوى الترجمة المكتوبة العامة أو الترجمة المتخصصة أو الترجمة الفورية. كما يعد قطاع الإعلام وصناعة المحتوى الرقمي مرتبطا بشكل كبير باللغة العربية على صعيد التحرير، والكتابة والتقديم الإذاعي والتلفزيوني. هذا بالإضافة لصناعة الدراما وخاصة الدراما التاريخية، وما يرتبط بها من صناعات فرعية من الدوبلاج أو المحاكاة الصوتية وترجمة الدراما والأفلام الأجنبية، فضلا عن مهمة التدقيق اللغوي.
ومن الملاحظ أن التطور التقني في كافة المجالات يفتح مجالات جديدة لمتقني اللغة العربية. فالإنتاج الصوتي المتعاظم حاليا سواء على صعيد الكتب الصوتية أو على صعيد برامج البودكاست يحتاج لمتقنين للغة العربية، ويحتاج مبرمجو الحاسوب والعاملون في مجال الذكاء الصناعي لإتقان اللغة العربية للتعامل مع برمجة التقنيات الحديثة في عالم صناعة التطبيقات والحواسيب والهواتف الذكية.
أظهرت دراسة عام ٢٠١٦ قام بها المجلس الثقافي البريطاني أنه من المهم إتقان اللغة العربية من أجل جني فوائد اقتصادية بالنظر إلى العلاقات المتنامية مع الدول العربية في كافة المجالات، خاصة مجالات النشاط الاقتصادي
وهذه الفوائد الاقتصادية لا تقتصر على الدول العربية فقط، بل تمتد إلى دول العالم المختلفة. ففي بريطانيا مثلا، أظهرت دراسة عام ٢٠١٦ قام بها المجلس الثقافي البريطاني أنه من المهم إتقان اللغة العربية من أجل جني فوائد اقتصادية بالنظر إلى العلاقات المتنامية مع الدول العربية في كافة المجالات، خاصة مجالات النشاط الاقتصادي. وشرحت الدراسة أن الإلمام باللغة الغربية حتى لغير المتخصصين في علوم اللغة مهم، ويعتبر ميزة إضافية تنافسية بمجال العمل في قطاعات مثل القطاع الصحي وحقوق الإنسان والقطاع التجاري.
لا يتسع المقام هنا لذكر مجالات أخرى كثيرة تفتحها اللغة العربية أمام من يتقنها. وأعتقد أن إدماج هذا الفوائد الاقتصادية والمهنية مع الفوائد الدينية والقومية الأخرى سيعزز من تدعيم نشر اللغة العربية وإعادة الاهتمام بها، خاصة لدى الأجيال الجديدة في ظل التراجع التعليمي الملحوظ في معظم الدول العربية.
twitter.com/hanybeshr