من الجدير بالذكر أن نتأمل تلك الأحداث الأخيرة التي ترتبط بالسد الإثيوبي وربط ذلك بشأن المستبد حينما لا يحسن التصرف، مستخفا بشعبه ومحاولا تغييبه عن أمور أساسية تتعلق بمصيره معاشا ووجودا.
في هذا السياق، نستطيع أن نقول إن المستبد في سياساته التي تتراوح بين المغامرة والمقامرة أو التهوين والخذلان، فإنه مستخف بشعبه لا يقيم له وزنا ولا يحدد أولويات
الأمن القومي التي ترتبط بمصالح الوطن ومستقبله.
ولا شك أن مواقف النظام تتشكل ضمن هذه السياسات التي تعبر عن ميوعة في وقت الجد والخطر، وعن تهور ومغامرة في ما يستحق الحوار والمهادنة، فكأنه يقوم بقلب المواقف وفقا لخياراته وهواه أو مصالحه الآنية والأنانية. ولعل ذلك يكون واضحا من خلال تصاعد ذلك التعنت الإثيوبي، خاصة بعد وصول خطاب رسمي من وزير الري الإثيوبي لنظيره
المصري يفيد ببدء إثيوبيا الملء الثاني لخزان السد الإثيوبي، وهو أمر بالضرورة سيؤثر على حصة مصر المائية، بل وقد يؤدي إلى كارثة مائية خطيرة لم تواجهها مصر من قبل.
ومع ذلك فإن المستبد وكأنه ليس في يده القرار يتحدث عن أنه "لا يجوز أن تستمر المفاوضات إلى ما لا نهاية"، وكأنه في حقيقة الأمر ينتقد أسلوبا أصر على ممارسته، بينما هو يؤمن أن المفاوضات هي الشكل الوحيد للتعامل مع تلك الأزمة، ولا يقبل بأي طريق آخر حتى ولو كانت مجرد تصريحات في الهواء.
وفي واقع الأمر أن لذلك تعلقا مباشرا بالمواطنة والمواطن، ذلك أنه كما أكدنا مرارا وتكرارا أن السياسة في عمومها هي معاش الناس، وأن الأمن الإنساني بمفهومه الواسع إنما يشكل في حقيقة الأمر أهم ركن في الأمن القومي، بل يعد الأمن القومي المصري ركناً منه وفيه.
ومن ثم فإن هذه المسألة التي تهدد حياة المصريين وكيانهم ومستقبلهم إنما تشكل في حقيقة الأمر نيلا من مواطنية المواطن ووجوده وكيانه وأمان مستقبله، ولكن المستبد لا يعنيه ذلك مستخفا. وقلنا إنه يمارس سياسات لا تتناسب ولا تتكافأ مع حقيقة خطورة الموضوع على أمن الوطن والمواطن معا.
وفي هذا السياق نرى مثل هذه السياسات المتخاذلة والتصريحات المتكررة التي تعبر عن ارتباك ضمن أجهزة ومؤسسات الدولة. فنرى وزير الري يتحدث عن أمور تتحدث عن الدبلوماسية والتفاوض، ونرى وزير الخارجية يتحدث عن أمور فنية تتعلق بمشكلة المياه وشحها في المستقبل، في تبادل خطير للأدوار لا يعبر في حقيقة الأمر إلا عن محاولة الجميع إغفال المتسبب الحقيقي في تلك الأزمة الخطيرة التي تواجه مصر وطنا ومواطنا، ألا وهي شرعنة إقامة السد وفق اتفاق مبادئ في عام 2015 وقعه المستبد بإرادة منفردة، رغم أن بعض الأجهزة والمتخصصين قد عارضوا وحذروا من ذلك؛ في إطار أن اتفاق المبادئ لا بد وأن يكون مشفوعا باتفاق فني تفصيلي حول ملء السد وتأثيراته الضارة بحصة مصر المائية، وكذلك بالخطورة الفنية لبناء السد فضلا عن آثاره البيئية الممتدة.
وما كان من وزير الخارجية من بعد حينما طالبه البعض بضرورة أن تسير مصر ضمن خطة تبدأ بالتهديد بالانسحاب من ذلك الاتفاق، بالاعتبار الذي يؤكد كيف كان هذا الاتفاق غطاء لسياسات التعنت الإثيوبي، والتأكيد أن إثيوبيا لا تأبه لأي أمور تتعلق بذلك الاتفاق، والقيام بإرادتها المنفردة باتخاذ قرار الملء الثاني وإمضائه.. فإذا به يقول إنه لا نية لمصر في الانسحاب من ذلك الاتفاق، ويؤكد على أن مصر قامت بعقده بملء إرادتها، وظلت تلك المسيرة ضمن فقدان أي أوراق للضغط على الجانب الإثيوبي في هذا المقام، بما يهدد الأمن القومي والمائي لمصر كيانا ووجودا.
وفي ظل هذا قد تقوم السياسات التي يوجهها المستبد في منظومته السياسية والدبلوماسية، وكذلك كل من يعنى بالشأن المائي في هذا المقام، بحيث ظل هؤلاء يرددون نغمة ذلك التفاوض في أمر يستحق الاختيار والقرار والحسم بإرادة تؤكد أن الخيارات مفتوحة.
وبدت بعض هذه التصريحات من هنا وهناك تشير إلى تلك الخيارات المفتوحة وإلى الخطوط الحمر، إلا أن الجانب الإثيوبي استهتر بتلك التصريحات، فضلا عن أن تلك الفترة قد شهدت تصريحات أخرى تعبر عن مزيد من التخاذل بدعوى الصبر والنفس الطويل، وهو ما أفقد مصر أي قدرة على الضغط على الجانب الإثيوبي، خاصة وقد شاعت ضمن تلك المنظومة معالجات هزلية مثل تلك التي ردد فيها "آبي أحمد" قسما أملاه "السيسي" عليه، بأنه لن يضر بأمن مصر المائي، ثم أطلق السيسي ضحكة بلهاء تعبر عن مدى الاستخفاف بهذه المسألة على خطورتها البادية والتي تهدد الكيان المصري بأكمله، بل إنه قد صدر قرار في نيسان/ أبريل 2014 من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وإيطاليا والبنك الدولي بوقف تمويل بناء
سد النهضة، وتجميد قروض دولية لإثيوبيا بقيمة 3.7 مليار دولار، بينها قرض صيني بمليار دولار، ومع ذلك قام السيسي بتوقيع إعلان المبادئ في آذار/ مارس من العام التالي، وبذلك فقد أهدر الفرصة التي تتعلق بوضع إثيوبيا في مأزق الاستمرار في ذلك المشروع.
ولذلك فإننا نشير إلى ذلك البيان الذي أصدره تكنوقراط مصر ووجهوه إلى الشعب والجيش؛ منبهين إلى عدم قبول كل تلك التمويهات التي تصدر ليس فقط من الدبلوماسية المصرية، ولكن كذلك من الأبواق الإعلامية والترويج لما يسمى بالاتفاق الملزم الذي لا يضمن بأي حال من الأحوال تجنب الضرر الذي يتعلق بالجفاف وضياع حصة مصر المائية وبوار أرضها وعطشها، وأن هذا الشعب بأفراده ومواطنيه لم يفوض أي حاكم أو أي نظام في أي وقت بالموافقة على إنشاء سدود على
النيل الأزرق، وأنه لم يستفت الشعب المصري على إعلان المبادئ الموقع عليه في آذار/ مارس 2015 كما ينص دستور 2014، كما لم يعرض على البرلمان، وأن إعلان المبادئ هذا مرفوض في جملته وتفصيلاته، وأن الانسحاب منه مطلب أساسي في مواجهة ذلك التعنت الإثيوبي.
وكذلك فإن ممارسة الخداع في الخطاب الذي يروج لخطط للتوسع في الاعتماد على مياه الصرف الصحي والزراعي هي أمور لا يمكن إقرارها في هذا المقام، حيث أن الحفاظ على الأمن المائي أولا والأمن الصحي والغذائي لمواطني هذا البلد؛ هو أهم وأعظم من أي تسويات ومواءمات دولية، وأن هذه المشروعات لا تقدم حلا يتسم بالاستدامة ولا تسهم في زيادة مياه النيل. بل إن ممارسة ذلك إنما يعد تبديدا وغطاء لخطأ استراتيجي مسؤول عنه النظام المصري، وبشكل أساسي رئيس هذا النظام وطريقة إدارته لهذه الأزمة المتحققة.
وكذا فإن ذلك الخطاب الإعلامي الذي يحاول أيضا أن يشيع عن فشل الملء الثاني؛ إنما يعبر عن تزييف حقيقي لهذه الأزمة، وهو أمر يجعل كل هؤلاء مطالبين بالكف عن ذلك التورط في عملية التضليل، لأن هذا الشعب بأفراده ومواطنيه لن يغفر لمن يحاول تضليله أو خداعه، أو يسهم بشكل أو بآخر في تبرير تلك المواقف المتخاذلة في أمر مصير ووجودي.
بناء على كل ذلك فإنه حينما يمارس ذلك النظام الاستبدادي كل ما من شأنه أن يجعل المواطن تحت التهديد في مستقبله الوجودي الذي يتعلق بمياه النيل وتدفقها في متوالية الاستخفاف، فيخرج من استخفاف بكارثة السد الإثيوبي إلى الاستخفاف بالأمن الصحي والغذائي للمواطن المصري، وهو ما يشكل خطرا أساسيا تتآكل فيه الحقوق وتجف فيه الحلوق بما يؤثر على معاش الناس ومستقبلهم وتوفير ضروراتهم الحياتية والمعيشية.
نعم، فتخاذل ذلك النظام الاستبدادي أو ما يمكن وصفه بممارساته الخداعية والتضليلية فإن مصر في خطر ماحق، وقالوا قديما الإمام العادل خصب الزمان، ونقول الظالم المستبد جدب وخسران وخراب العمران.
twitter.com/Saif_abdelfatah