هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ولد توفيق الحكيم (1898- 1987) في مدينة الإسكندرية ومن ثمّ انتقل إلى القاهرة، حيث درس في كلية الحقوق هناك وتخرج منها.. توفيق أديبٌ وحكّاءٌ عَتيّ في تاريخ الأدب المصري والعربي، عاصر حِقب حكمٍ مختلفة، وأنظمة سياسيّة متتالية، من الملكية حتى نظام مبارك الجمهوري.
ألّف الحكيم العشرات من الأعمال الأدبية، مسرحياتٍ، روايات، وكتب المقالات، باللغة العربية، ومنها ما تُرجم إلى لغات مختلفة، الإنجليزية والروسية والفرنسية والألمانية والإسبانية والعبرية.. لكن، ما أثار الجدل حول الحكيم، هو كتاب عودة الوعي، الذي صدر عام 1972، كان الحكيم ناهز من العمر 75 عاما، بعد نهاية الحقبة الناصرية بموت عبد الناصر نفسه عام 1970.
اعتبر هذا الكتاب انقلابا على توجّهات الحكيم السابقة تجاه النظام الناصريّ الذي كان واحدا من أهمّ نُخبه الثقافية، ارتبط الحكيم ثقافيا بنظام ما بعد تموز/ يوليو عام 1952، حتى من قبل تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، بل تأسس هذا الارتباط عندما قرأ عبد الناصر رواية الحكيم في ظل يفوعه كشابٍ لم يبلغ سنّ الخامسة عشرة، رواية عودة الروح الصادرة عام 1933، والتي تُرجمت فيما بعد إلى ثلاث لغات، فرنسية وإنجليزية وروسية.
ما بين عودة الروح عام 1933، وعودة الوعي عام 1972، أي خلال 39 عاما، تغيّرت وجّهة ما كتبه الحكيم، تغيّر الوجّهة هنا ليس تناقضا كاملا ولكنّه بمثابة تعديلا لما رآه خاطئا بعد انتهائه. فماذا كتب الحكيم في العودتين، ولماذا أثار الجدل حول عودته الثانية؟
عودة الروح
قرأ عبد الناصر عودة الروح، كان شابا يافعا، تأثر بها، حيث دارت الرواية حول أحداث ثورة آذار/ مارس 1919، بقيادة الرموز والحركات الوطنية ضد الاحتلال وسلطة الملك المنتكسة أمامه، مطالبين بخروج الاحتلال البريطاني من مصر، وتأسيس دستور وبرلمان وحكومة من قبل الشعب لا بواسطة السلطة. (الحكيم، عودة الروح، دار الشروق القاهرة 2004).
مثّلت الرواية لعبد الناصر إلهاما خاصا للتخلص من النظام الملكيّ، لِتتمفصل في الواقع أحداثا أُخرى انتهت بالإطاحة بالملك وتولّي تنظيم الضباط الأحرار السلطة في مصر بقيادة محمد نجيب، قبل أن يُطاح به، لينفرد عبد الناصر وحيدا بالسلطة، وسط صراعٍ آخر بينه وبين نائبه ووزير دفاعه عبد الحكيم عامر.
لم يقف تأييد توفيق الحكيم الثقافي لنظام تموز/ يوليو الجديد، عند نوستالجيا رواية عودة الروح في الثلاثينات، بل كتب مسرحية الأيدي الناعمة عقب تولّي النظام الجديد 1952، والتي تحولت بعد ذلك إلى فيلم سينمائيّ عام 1963، من بطولة أحمد مظهر، ومريم فخر الدين، وإخراج محمود ذو الفقّار.
حاكى العمل الحقبة الناصرية بوجهها الاشتراكي اللامع الرافض للطبقية، المشجع للمساواة، في تجسيد لشخصية بن الباشا الذي أُمّمّت كلّ أمواله، وهو لم يقتنع أن مُلكه قد زال، حتى يغيّره الحب ويبدأ بالاعتراف، بل ويعرف أن قيمة الحياة في العمل والمساواة والخروج من أنقاض ماضي الباشاويّة والعنصريّة.
اقرأ أيضا: تفكيك "المثقف المزيف" عند باسكال بونيفاس
طيلة فترة حكم عبد الناصر، أصبح الحكيم واحدا من أهم الأرواح الثقافية بالنسبة له ولنظامه، وقد أهداه وسام الجمهورية الرفيع عام 1958، وعيّنه سفيرا لمصر بمنظمة اليونسكو بباريس عام 1959، وظلت العلاقة بينهما تتمتّع بالسلام والتقارب، ولم يحدّث أي خلاف بينهما، ليظهر الخلاف بعد ذلك بين الحكيم وأنقاض عبد الناصر المتبقية بعد موته المتمثلة في سياساته ومؤيديها.
عودة الوعي
خرج الحكيم عن الصمت، ولكن بعد موت عبد الناصر بعاميّن. في كتابه عودة الوعي، سرد الحكيم وجهات نظره منتقدا بشدّة سياسات حكمه، اسم الكتاب برأي الكاتب والروائي المصري إبراهيم عبد المجيد هو نقيض اسم روايته الأولى في الثلاثينيات، فهنا عودة الوعي، لكن قديما كان عودة الروح، أي أن الحكيم قصد أن روح الحقبة الناصرية وعاطفتها قد غيّبته عن النقد العقلي لسياسات حكمه القمعية.
انتقد الحكيم في كتابه السياسات من عدة زوايا، قال أن عبد الناصر حوّل حكمّه لحكمٍ فرديّ، حكم الفرد الواحد متمثلا في شخصه الذي يتحكّم في كل ما يتعلّق بالبلاد، شبّه الحكم الناصري بحكم إيطاليا وألمانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، أي حكما ناصريا على الطريقة النازية والفاشستيّة، كما أن عبد الناصر في مراجعات الحكيم لم يكن سياسيّا مثل غيره من الزعماء وقد ذكر على سبيل المقارنة جوزيف تيتو الرئيس اليوغسلافي السابق، و جواهر لال نهرو زعيم حركة الاستقلال الهندية، بل عبّر أيضا عن حبّه لِعبد الناصر الشخصي، لكنّه لن يستطيع أن يسامحه على إدارة حكمه، وطالب بمحاسبة ماضيه السياسيّ والسلطوي، لأن حسابه من حق الأمة المصرية والعربية. (الحكيم، عودة الوعي، مكتبة مصر للمطبوعات، القاهرة، ط2، 1988. ص 50، 52، 58، 81)
انتقد بقايا الناصرية، والمؤيدين للتجربة الناصرية كتاب الحكيم وشخصه، حيث قالوا إن الكتاب لم يأخذ شكلا منهجيا في البحث والتدقيق للتجربة الناصرية بشكلٍ حقيقي، لما أنتجته للمواطن المصري من سياساتٍ اقتصادية وتعليمية واجتماعية وغير ذلك، كان أبرز المنتقدين صحافي الحقبة الناصرية محمد حسنين هيكل، حيث وصف الحكيم في مقال كتبه بعنوان "الشجاعة الحقيقية" بمجلة الصياد المصرية، بأنّه لا يمتلك الشجاعة الحقيقية، لأنه ينتقد الأموات، وتساءله لماذا لم ينتقد عبد الناصر في ظلّ حكمه، وظل صامتا مؤيدا ومقربا منه، يتقلّد المناصب والأوسمة طيلة فترة حكمه، انتقده أيضا المفكر اليساري المصري محمود أمين العالم، موضحا أنه يجب التفريق بين سياسات الحكم، وبين التجربة الناصرية ذاتها المتمثلة في تغيير شكل النظام الرأسمالي والاجتماعي.
أيّد آخرون الحكيم، في نقده للقمع والتفرّد بالحكم وإلغاء الحياة السياسية والاجتماعية، وتأميم الآراء حول سياسات الحكم، وشيوع الفساد والإهمال الإداري والعسكري، ما تسبب في نكسة يونيو عام 1967، وضياع أرض سيناء المصرية وغير ذلك من الأراضي العربية، بل ودافعوا عن الحكيم في الاتهامات التي وجّهت له، أنّه بذلك الكتاب يسعى إلى التقرب من النظام الساداتي الجديد، من خلال اللعب على التقرب من سياسات أي نظام حكم جديد يأتي إلى السلطة، مبرهنينَ أن الحكيم قد عارض أو على الأقل لمّح بمعارضته في مسرحيته السلطان الحائر عام 1959، عبر تجسيده معنى وجوب انتصار القانون على السيف، أي انتصار العدل على القوة، بالإضافة إلى تأييد الحكيم لمظاهرات الطلبة عام 1972، المحتجّة على سياسات السادات بشأن حالة اللاحرب واللاسلم مع الكيان الصهيوني.
شكّل هجوم الحكيم المبكر، بمكانته وقتها كأديب مصريّ مرموق، تأسيسا لحالة هجوم وانتقاد واسعة للنظام الناصري، تمثلت تلك الانتقادات في مسرحيات وروايات، كتبٍ، وأفلام سينمائية، حيث كُثّف الإنتاج الثقافي طيلة فترة السبعينيات والثمانينيات لتبيان ونقد القمع والتعذيب الذي واجهه المثقّفون وغيرهم من أبناء الشعب على يد أجهزة الأمن الناصرية، نظرا لاختلاف رأيهم عن رأي السلطة السياسيّة وقتها.