في زمن التحديات الداخلية
والخارجية، وفي لحظة الالتباس التي يعيشها العقل العربي اليوم، نحتاج للعودة إلى
النماذج المشرقة في واقعنا العربي والإسلامي، كي نستفيد منها من أجل القراءة
الصحيحة لهذا الواقع، وكي نستطيع أن نحدد ملامح خارطة طريق أولية للخروج من هذا
النفق المظلم.
وفي هذا الإطار تأتي
مذكرات المفكر والمناضل
العربي الأستاذ منير شفيق "من جمر إلى جمر" الصادرة عن مركز دراسات
الوحدة العربية، والتي دوّنها وحررها الكاتب والباحث الراحل نافذ أبو حسنة. وهي
تقدم لنا نموذجا للعقل العربي المقاوم في الزمن الصعب، وكيف يمكن مواكبة التحديات
المختلفة برؤية واضحة وبموقف صلب وبإرادة قوية، كي نواجه العدو ونبحث عن نقاط
القوة فينا ونقاط الضعف في جبهة العدو، بدل الانهزام والانكسار في زمن الخيبات
والنكسات.
"من جمر إلى جمر" ليست مذكرات
شخصية وذاتية للمفكر منير شفيق فقط، رغم أنه من عاشها ورواها وساهم في تفاصيلها،
بل هي مذكرات لجيل وتيار واسع من المناضلين والمجاهدين والمقاومين والمفكرين
والشهداء الذين واكبوا مسيرة مقاومة المشروع الصهيوني- الغربي منذ بداياته في
ثلاثينات القرن الماضي وحتى عشرينات القرن الحالي.
وهي مسيرة مستمرة لم تتوقف، وقد شهدت محطات
مهمة طيلة التسعين عاما الماضية. وقد دخلت مرحلة جديدة في السنوات الأخيرة، ولا
سيما هذا العام من خلال معركة "سيف القدس"، والتي حملت بشارات جديدة على
أن نهايات الكيان الصهيوني قد بدأت، وأن عصر المقاومة سيحقق أهدافه باستعادة الأرض
وتحرير الإنسان.
فماذا تحمل هذه المذكرات من أفكار؟ ومن هو
التيار الذي حمل راية النضال طيلة التسعين سنة الماضية؟ وما هي أبرز الخلاصات التي
يقدّمها لنا المفكر منير شفيق ورفاقه في هذه المسيرة المقاومة؟
منير شفيق شخصية قلقة تبحث عن الحق والطريق
الصحيح منذ بداياته الأولى في حي القطمون في مدينة القدس، ولذا لم يتوقف أمام
انتمائه الديني التقليدي للدين المسيحي ولم يقيّده هذا الانتماء، ولذلك كان يبحث
عن الحق أينما وجده، فتعرف على الإسلام والقرآن من خلال والده المحامي شفيق العسل.
ولم يكتف بذلك، بل تعرف على كل الأحزاب والأفكار التي عاصرها في خمسينات القرن
الماضي، من الحزب الشيوعي إلى حزب التحرير الإسلامي والإخوان المسلمين والأحزاب
القومية (البعث وحركة القوميين العرب والناصرية)، وصولا للمنظمات
الفلسطينية
وخصوصا حركة فتح.
كما تعرف منير شفيق على النضالات العالمية
والثورات والتجارب الشعبية التحررية واليسار العالمي وتجربة فيتنام والصين والاتحاد
السوفييتي، وعاصر الثورات الفلسطينية منذ ثلاثينات القرن الماضي، وصولا لنكبة
العام 1948 وقرار التقسيم ونكسة العام 1967، مرورا بانطلاقة الثورة الفلسطينية
ومعركة الكرامة وحرب أيلول في الأردن والانتقال إلى لبنان وحرب 1973 والحرب الأهلية
اللبنانية، وصولا لحرب 1982 وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان ونشوء المقاومة
الوطنية والإسلامية اللبنانية، ومن ثم الانتفاضة الفلسطينية 1987، واتفاق أوسلو
وكافة الحروب والصراعات مع العدو الصهيوني، وتأسيس سرايا الجهاد الإسلامي وحركة
الجهاد الإسلامي وحركة حماس وحزب الله، إلى المرحلة الحالية من الربيع العربي
ومختلف التحديات التي رافقت كل تلك المراحل.
ولم يكن منير شفيق لوحده في هذه المسيرة بل
كان جزءا من تيار واسع من المناضلين والمجاهدين، استفاد من تجربة النضال داخل
الحزب الشيوعي الأردني، لكنه خرج منها بعد أن اكتشف ثغراتها ومشاكلها، وانتقل
للنضال داخل حركة فتح مع ثلة من المجاهدين والأبطال.
وكانت له تجربة خاصة حملت سمات معينة واتسمت
بالثورية والثبات على الموقف، مما جعله يختلف مع القيادة في بعض المواقف ويتحمل
نتائج وتحديات ذلك، لينطلق لتأسيس تيار خاص من رفاق كثر له، ومنهم ناجي علوش وأبو
حسن قاسم وحمدي ومروان كيالي وأبو خالد جورج وسعد جرادات وأبو داود وعلي أبو الطوق
ومعين طاهر وهلال رسلان وعادل عبد المهدي وعادل حسين، وغيرهم الكثير الكثير من
المجاهدين والأبطال والمفكرين، وبعضهم استشهد وبعضهم لا يزال يناضل وبعضهم انتقل
إلى مواقع أخرى.
ورغم بعض الخلافات والتباينات مع بعض الرفاق،
وخصوصا ناجي علوش وأبو داود والدكتور محجوب عمر، فإن مسيرة النضال استمرت وأثمرت
الكثير الكثير، سواء من خلال مركز التخطيط التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية أو
الكتيبة الطلابية أو السرية الطلابية أو اللجان الوطنية اللبنانية أو غيرها من اطر
ومؤسسات نضالية متنوعة.
ولم يكن تبني الخيار الإسلامي والتعاون مع
الثورة الإسلامية الإيرانية رد فعل أو مجرد تحول بسيط في فكر ونضال منير شفيق
ورفاقه، بل كان خيارا واعيا وتطورا طبيعيا من أجل البحث عن الإطار الفكري والسياسي
والشعبي الأوسع لمتابعة مسيرة النضال ضد العدو الصهيوني والمشروع الغربي.
وكل ذلك حوّل شفيق إلى مفكر إسلامي عبر سلسلة
الكتب والدراسات التي أطلقها، وكانت نتيجة نقاشات وحوارات معمقة مع بقية الرفاق
والمناضلين. وعلى ضوء ذلك كانت له مساهمات أخرى في المؤتمر القومي العربي والمؤتمر
القومي- الإسلامي والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وإن كانت له مقاربات خاصة
للثورات العربية جعلته يبتعد عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومؤسسه العلامة
الشيخ يوسف القرضاوي، ولكنه في المقابل احتفظ بعلاقات مميزة مع العديد من المفكرين
والقادة الإسلاميين.
وخلاصة تجربة منير شفيق ورفاقه تؤكد أن خيار
المقاومة هو الخيار الأصوب لمواجهة الاحتلال الصهيوني والمشروع الأمريكي في
المنطقة، وأن العمل الجماعي واحترام التنوع في الآراء والمواقف هو الأسلوب الأنسب
في النضال وإدارة التنظيمات والمؤسسات، وأن تطور التجارب الفكرية وممارسة النقد
والقراءة الصحيحة للواقع ولمختلف المعطيات السياسية هو الطريق الصحيح لامتلاك
الرؤية الصحيحة وإدارة النضال والمواجهة، وأن الاستفادة من تجارب الشعوب في العالم
والثورات والحروب تعطينا القدرة على امتلاك الوعي الصحيح مع تطوير قدراتنا
وإمكانياتنا الذاتية.
لا يمكن اختصار مذكرات منير شفيق بمقال أو
قراءة سريعة لأنها خلاصة عمر طويل من النضال والتفكير والبحث عن الحقيقة، وهي ليست
مذكرات شخصية وذاتية فقط، بل هي تلخص تجربة عاشها آلاف المناضلين والأبطال
والشهداء، ونحن اليوم بحاجة لقراءة هذه التجربة المهمة والاستفادة من دروسها كي
نقرأ الواقع بشكل صحيح، ونستفيد من كل التجارب السابقة وكي لا نقع في الأخطاء
مجددا.
أطال الله بعمر المفكر الأستاذ منير شفيق
ورفاقه الذين يواصلون الدرب في مواقع مختلفة، ورحم الله الكاتب والإعلامي الممّيز
المناضل نافذ أبو حسنة وكافة الشهداء في مسيرة النضال لتحرير فلسطين، وعلى أمل أن
تكون هذه المذكرات نافذة مهمة لكل من يبحث عن العقل العربي المقاوم لمواجهة
التحديات الداخلية والخارجية اليوم.
twitter.com/KassirKassem