هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تلح عليّ؛ هذه الأيام، صور عبد الحكيم قاسم الأخيرة، في منامي يلوح لي وكأنه يخط كلمات على سطح مجرى مائي، في صحوي؛ وبينما أحدق في السقف، أقرأ كلمات له، كأنها محفورة بعمق في السطح الأسمنتي.
أعرفها جيدا، وتترك في نفسي نفس الأثر الذي تركته منذ طالعتها أول مرة، فحفظتها على الفور. هذه الكلمات لا تنفد طزاجتها.
تتكرر جملة من "محاولة.. للخروج" فأستعيد وقعها الأول، محاولا أن لا ينفلت صوتي بحروفها، وأبقيها بأمانة صوتي الداخلي، أردد: أنا، وأترك فترة صمت لتناسب النقاط الثلاث المطبوعة بعد الكلمة، دلالة رغبة الراوي في عدم الإعلان عن شخصه. وأستعيد حيرتي الأولى تجاه جملة "لكن قاهرة يوليو لم تقتل بعد حلمي".
قرأت رواية، قاسم، فور صدورها- عام 1987-، ثم عدت لدرسها بعد ثلاث سنوات، فقد كنت أريد أن أفهم العلاقة المعقدة بين ما عرف نقديا بجيل الستينيات في الأدب المصري وبين ثورة يوليو، وكان قاسم قد سجن، ضمن من سجن من الشيوعيين المصريين (1959- 1964). وتصادف أن تزامنت القراءة الثانية مع تداعيات غزو العراق للكويت، وما أعقبها من كوارث، عبر عنها جيدا محمد السيد سعيد في كتابه "مستقبل النظام العربي بعد أزمة الخليج". وها أنا، أستعيد أجواءها وبعض جملها، مجددا.
في شتاء 1990 كانت جملة "قاسم": "أصبحت في الثلاثين ولم أنجز بعد شيئا، مع أنني كنت دائما مفعم القلب بالرغبات العظيمة، ولم أقعد أبدا راكدا في ظل جدار، وكل ليالي العمر لم أنم إلا قليلا" تعبيرا عن شعور صارخ داخلي بفداحة الكارثة، وللمصادفة فقد كنت أتم الثلاثين بالضبط، وباستثثناء موضوع النوم، كنت أقرب لحال الراوي، على صعيد الأحلام العامة، ففي حياتي الشخصية كنت أبا فرحا للغاية بطفله الجميل الذكي. وحلمي لم يك أبدا إلا حلم للجميع.
لم يغامرني شك في أن حديث، قاسم، عن يوليو لا يريد به، فقط،، ذاك الشهر من شهور الصيف، فهو بعد الثلاث نقاط التي تعقب "أنا" يكتبك: "أحمل صيف القاهرة على رأسي، في عيني، في قلبي، وأدب في الشوارع بلا كلل، يوليو يفرش السكك نارا"، لكنه ينتزع "يوليو" من دلالة الطقس والأجواء ويقذف به إلى دلالة أشمل مدى حين يكتب جملته التي حيرتني من مطالعتي الأولى، فالصيف لا يقتل الأحلام، بل هو في معظم الآداب العالمية قرينا بالحلم، الصيف ليله طويل، وسماؤه صافيه، وأحلامه كما علمنا وليم شكسبير في رائعته "حلم ليلة في منتصف الصيف" مطلقة الخيال والآمال. لم أشك في أن مفتتح رواية "محاولة..للخروج" كانت نقدا شعريا لتجربة يوليو، والخروج حلم فرد لم يعد بإمكانه التحمل.
هذا ما يلح علي من الرواية هذه الأيام، مفتتحها، أما الباقي فقد يحين الوقت للتفكير فيه، فقد مررت بتجربة مشابهة لحد ما بشخصية الراوي، وبالكاتب نفسه، غادرت مصر بعد أن بدى لي أن حلمي محاصر، لكني لم أحب سويسرية، ولم أقارب أزمة هوية وصارع اللشرق والغرب.
أريد أن أقول أن حضور صور عبد الحكيم قاسم في أيامه الأخيرة تلح علي وأن بعض كلماته في رواية "محاولة..للخروج" تلوح لي محفورة بعمق في سقف أسمنتي.
هنا، الآن، في لحظة الكتابة، أتذكر- يا للعجب كيف نسيت- أن عبد الحكيم قاسم المولود في عام 1935، توفي بينما كنت ما أزال أدرس علاقة أدب الستينيات بثورة يوليو، وأن وفاته أعقبت محاولته الأخيرة للتعاطي بمزيج؛ فريد وخاص، من العقلانية والأمل والرومانسية والصوفية مع واقع فاسد سياسيا واجتماعيا.
أتذكر هذا، الآن، واستغرب لما ألحت "محاولة..للخروج" ولم تحضر "قدر الغرف المقبضة"، وهي الرواية الأقرب لحالي الآن.
نشر عبد الحكيم قاسم هذه الرواية عام 1982، أتذكر صورة الغلاف جيدا، في الأعلى "مطبوعات القاهرة"، ثم جسدا رجل امرأة، غير واقعيين- خياليين، خرافيين، أسطوريين، مشوهين- متداخيلا الأطراف، يحلقان في سماء غرفة ضيقة لا يوجد فيها إلا سرير صغير للغاية. أتذكر جيدا، أيضا، أن تصميم الغلاف للفنان صلاح عناني، والخطوط للفنان محمد بغدادي.
علق كل هذا بالذاكرة ولن يمحى فلطالما استعدته، ذلك أن صديقا كان قد سألني أن أكون مرشده في القراءة الأدبية فأعرته عددا من الكتب المنوعة، قلبها، ثم توقف عند عنوان الرواية، وسألني: ماذا يقصد من العنوان، ونطقه "قِدر الغرف المقبضة"، وتسأل ما علاقة الإناء الذي يطبخ فيه بالغرف المقبضة، هل يقصد أن الناس يسكنون في غرف صغيرة مقبضة حتى وكأنها "حلة" يُسلقون فيها، فأجبته بسؤال: ولماذا تكون الكاف مكسورة، وليست مفتوحة، لماذا لا يكون المؤلف يقصد "قَدَر" والتي تجمع على "أَقْدَارٌ" وليس "ِقدر" التي جمعها "قُدُور"؟، لماذا لا يكون قصده القَدَرُ، أي وقتُ الشيء أَو مكانه المقدَّر له، أو القَدَرُ بمعنى القضاءُ الذي يَقضي به الله على عباده، أو حتى "قَدَر" كما في "قضاءً وقدرًا"، بمعنى دون قصد، أو تدبير من أحد،، وليس الـ "قَدَر" بمعنى "الإِناءٌ" الذي يطبخ فيه؟. وبعد بحث طريف بيننا اتفقنا على أن يجيب هو عن سؤال ما يقصد المؤلف من الكلمة بعد أن يقرأ الرواية.
هكذا علق الغلاف والعنوان والرواية نفسها بالذاكرة لأن مداومة حكي الطرفة حولتها لنادرة تخطت بالطبع النطاق الشخصي فصارت أمثولة في محيطنا الاجتماعي.
كان صديقي يحفظ مقاطع من الرواية، إذا كان وقتها يسكن في سكن مشترك من آخرين لا تتفق ميولهم مع ميوله، في كل شيء تقريبا، فكان يردد مقاطع طويلة من الرواية تنفيسا عن ضيقه، مفتتاحا إنشاده بمقولة "ينفع بالكسرة وينفع بالفتحة. الغرف المقبضة أشبه بالسجن"، ثم ينشد من الرواية هذا المقطع: "فتح الباب وخرج. ممر صغير ضيق طويل بين صفين من الغرف مشى فيه حذرًا متخوفًا حتى وجد في نهايته صنبور مياه ومرحاض. من الناحية الأخرى يسير هذا الممر حتى الباب المفضي إلى السلم. في الشق الآخر من السطوح صفان آخران من الغرفة وعدة الجميع ستون غرفة. لكل مجموعة صنبور ومرحاض، والسكان أصناف من الطلاب وصغار الموظفين والبائعين الجوالين والعمال، وصغار تجار المخدرات. عاش عبد العزيز بينهم مرعوبًا حتى ألفهم وعرف أنهم ضعاف كالقش".
تلح علي صور عبد الحكيم قاسم الأخيرة، وأنشد كلماته، وأختمها بكلماتي هي أثر مما تركه وتركته الأيام في يقيني: رغم كل هذا..حلمي ما زال حيا.