انتهينا في الحلقة السابقة إلى أن نفرا من "مريدي" الشيخ الشاب
حسن البنا ألحّوا عليه في "وجوب رسم الطريق الذي يجب أن يسلكوه؛ ليكونوا مسلمين، ينطبق عليهم (بحق) وصف الإسلام، فهم يريدون أن يتعلموا أحكام الإسلام، بعد أن تحرك وجدانهم بشعور أهل الإسلام"، فأشار عليهم البنا "باختيار مكان خاص، يجتمعون فيه بعد دروس المقهى أو قبلها؛ ليتدارسوا هذه الأحكام، ووقع اختيارهم على زاوية نائية؛ للاجتماع ولإقامة الشعائر". ومن ثم، يمكننا القول بأن هذا هو حجر الأساس في دعوة
الإخوان المسلمين، وأول أهدافها (من حيث الترتيب العملي) وليس آخرها.. "رسم الطريق الذي يجب أن يسلكه المسلم؛ ليكون مسلما، ينطبق عليه (بحق) وصف الإسلام".
فنحن إذن "الإخوان المسلمون"
يقول البنا في "مذكرات
الدعوة والداعية": "وفي ذي القعدة سنة 1347هـ - آذار/ مارس 1928م (فيما أذكر) زارني في المنزل أولئك الإخوة الستة: حافظ عبد الحميد، أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، زكي المغربي.. وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها، وجلسوا يتحدثون إليّ، وفي صوتهم قوة، وفي عيونهم بريق، وعلى وجوههم سنا الإيمان والعزم.. قالوا: "لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا ولا ندري ما الطريق العملي إلى عزة الإسلام وخير المسلمين، ولقد سئمنا هذه الحياة؛ حياة الذلة والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجَراء التابعين لهؤلاء الأجانب. ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفسنا، وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا، ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلى العمل كما تدرك، أو نتعرف السبيل إلى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف، وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك ما نملك؛ لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل، وإن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبتغي بذلك إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وإن قل عددها وضعفت عِددها".
ويواصل البنا حديثه، عن هذه اللحظة الفارقة في حياته الشخصية، وحياة الأمة من بعده، فيقول: "كان لهذا القول المخلص أثره البالغ في نفسي، ولم أستطع أن أتنصل من حمل ما حملت، وهو ما أدعو إليه وما أعمل له، وما أحاول جمع الناس عليه، فقلت لهم في تأثر عميق: "شكر الله لكم، وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يُرضي اهل وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى الله النجاح. فلنبايع الهع على أن نكون لدعوة الإسلام جندا، وفيها حياة الوطن وعزة الأمة!.. وكانت بيعة.. وكان قسَما أن نحيا إخوانا، نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله.
ويختم حسن البنا روايته لهذا الحدث "التاريخي" الذي صنعه نفر بسطاء علميا واجتماعيا: "وقال قائلهم: "بم نسمي أنفسنا؟.. وهل نكون جمعية أو ناديا، أو طريقة أو نقابة؛ حتى نأخذ الشكل الرسمي؟".. فقلت: "لا هذا، ولا ذاك، دعونا من الشكليات، ومن الرسميات، وليكن أول اجتماعنا وأساسه؛ الفكرة والمعنويات والعمليات. نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون". وجاءت بغتة.. وذهبت مثلاً.. وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة، حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية".
غُلو يجب الرجوع عنه!
إذن حسن البنا لم يسع إلى تشكيل كيان أو جماعة، وإنما كان ذلك استجابة لطلب صادق، من ستة من "مريديه" المخلصين الذين رأوا ضرورة الانتقال من "العمل بالإسلام" على المستوى الشخصي، إلى "العمل للإسلام" على المستوى العام، وهو ما وافق إيمانا عميقا لدى البنا بضرورة "العمل للإسلام"، أي نشر الإسلام "العملي" الذي يهيمن على شؤون الحياة كلها، وليس الإسلام "الطقوسي أو الشعائري" الذي كان سائدا وقتذاك، وكان مقترنا بـ"السلبية" في التعاطي مع الشأن العام خصوصا، وقضايا الأمة عموما!
بعبارة أخرى، لم يصُغ حسن البنا "مشروعا" ذا رؤية وأهداف ووسائل، ثم ذهب إلى ذوي الحيثية والوجاهة والخبرة والدراية؛ لعرضه عليهم وإقناعهم بالانضمام إليه، كما هو متعارف عليه عند تشكيل أي كيان عام! وإنما سارت الأمور بطريقة عكسية تماما.. فلم يكتب حسن البنا شيئا، ولم يعرض تكوين كيان على أحد، ومَن عرضوا عليه تكوين الكيان كانوا من بسطاء الناس، من حيث المكانة الاجتماعية والمؤهلات العلمية.
ليس معنى هذا أن حسن البنا لم يكن يعرف ماذا يريد.. بل كان يعي ويعرف (تماما) ماذا يريد، لكنه لم يتعجل، بل انتظر حتى آتت حركته بين الناس أولى ثمارها، فشرع في استثمارها كأي اقتصادي ناجح، مع أول فرصة لاحت له.. فعندما أقبل عليه "المؤمنون بدعوته" يسألونه: "ما اسمنا ومن نكون؟" كانت إجابته غاية في البساطة والتوفيق: "نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون". وجاءت بغتة.. وذهبت مثلاً.. وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة، حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية".
فكيف لاسم "جاء بغته" أن يصبح ثابتا من الثوابت، بل أول الثوابت، كما ورد على لسان الأستاذ جمعه أمين، نائب المرشد العام (رحمه الله)، في كتابه "منهاج حسن البنا بين الثوابت والمتغيرات"، حيث قال: "ثوابت الدعوة العشرة هي: أولاً: اسم الجماعة فكرة وتاريخاً ووفاء"! فإذا كان ذلك منطقيا ومقبولا وصحيحا، فلماذ تسمت جماعة الإخوان المسلمين في كل قُطر من الأقطار، باسم آخر غير "الإخوان المسلمين"؟! هل كان ذلك من باب المواءمات المحلية مثلا؟! وهل يصح أن تخضع الثوابت للمواءمات؟! وإذا كان ذلك كذلك، فكيف تكون ثوابت إذن؟!
الثوابت لا تكون إلا في الدين أو العقيدة، وبما أن "الإخوان المسلمين" جماعة من المسلمين، انتدبت نفسها لإحياء الإسلام في نفوس المسلمين، وهداية غير المسلمين، فثوابتها (بالضروة) هي ثوابت الإسلام، أما هي (ككيان) فمن البديهي أن يكون لها نظامها الأساسي، ولائحتها الداخلية، ورؤيتها ووسائلها، مع "التسليم" بأن هذا الكيان (ككل) هو محض اجتهاد، كل ما فيه قابل للتعديل والتطوير، والحذف والإضافة، والاستجابة لمعطيات الواقع، في ضوء ثوابت الإسلام! لا في ضوء ثوابت ابتدعها الأتباع، ولم يقل بها المؤسس رحمه الله..
إن التمسك بما يسمى ثوابت الدعوة (وما هي بثوابت في الإسلام) سيظل حجر عثرة أمام أي تغيير أو تحديث أو تطوير تحتمه الظروف، وهذا لعمري يضر ولا ينفع، إذ يخصم من قدرة الإخوان المسلمين (هذا الكيان الضخم الممتد) على مواصلة الهدف الذي رسمه الإمام المؤسس، ألا وهو وحدة المسلمين، وتمكين الإسلام، أو "أستاذية العالم" بتعبير البنا، وهو هدف يسعى إليه كل مسلم صادق مع ربه، ولو لم يكن منضويا تحت راية الإخوان المسلمين، وهنا تكمن أهمية دعوة الإخوان المسلمين، ووجوب استمرارها إلى حين، قد يتأخر قليلا أو كثيرا.
(يُتبع)
twitter.com/AAAzizMisr