أعلن الرئيس الأمريكي عن انتهاء انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول ٣١ آب/ أغسطس الحالي، وتسلمت حركة
طالبان العاصمة كابول في منتصف الشهر الحالي دون أية اشتباكات مع الرئيس الفار من البلاد أو الجيش الأفغاني، بعد سلسلة اجتماعات ومفاوضات امتدت على مر سنوات في الدوحة بين حركة طالبان والولايات المتحدة، وضمن خطة الولايات المتحدة لإنهاء حروبها طويلة الأمد في العراق وأفغانستان.
تتابعت ردود الفعل على قرار انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، فبعد عقدين من الحرب الأمريكية والخسائر التي دفع ثمنها الشعب الأفغاني نتيجة جرائم القوات الأمريكية المتتابعة في أفغانستان، استيقظت بعض الأطراف العالمية كي تعرب عن قلقها بعد تغاضٍ طويل عن تدمير تراكمي لبنية المجتمع الأفغاني الذي عانى طويلاً من الخسائر تحت الاحتلال الأمريكي.
تمحورت مجمل تلك المخاوف حول مستقبل حقوق المرأة في أفغانستان، وكيف سيتم تعامل حركة طالبان مع تلك الحقوق بالدراسة، والعمل، ومسألة الحجاب. واللافت في الأمر أن الإعلام الأوروبي الرسمي قد شدد في تقاريره الصحفية على مسألة حقوق المرأة الأفغانية، وحريتها في تقرير مصيرها. وتصدرت تلك النقاشات التي تم عرضها على التلفزيونات الرسمية والإعلام؛ شخصيات يمينية أوروبية متطرفة، تعج صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك برامجهم الحزبية بحرب معلنة على حجاب المسلمات في
أوروبا، كذلك السخرية من لباس البوركيني الذي ترتديه المسلمات في بعض الشواطئ الأوروبية، حتى وصف أحدهم منظر المسلمات بالبوركيني على شاطئ أوستندة مثلاً بالتلوث الجمالي في المكان.
حاربت تلك الوجوه اليمينية المتطرفة التي أبدت مخاوفها على حرية المرأة الأفغانية من أجل إصدار محكمة العدل الأوروبية في لوكسمبورغ منتصف تموز/ يوليو الماضي؛ قراراً يقضي بحق أي شركة أو مؤسسة منع ارتداء الحجاب بوصفه رمزاً دينياً واضحاً في مكان العمل. وأتى ذلك في سياق حكمها في قضيتي محجبتين في ألمانيا، رغم أن الدستور الألماني يكفل حرية العقائد والأديان.
بهذا القرار يصبح هنالك إجماع من قبل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية الأوروبية على إلغاء حقوق المسلمات في تقريرهن ما يرتدين على رؤوسهن، وتجاهل القانون
النساء اللواتي يرتدين الحجاب أو غطاء الرأس لأسباب غير دينية أو ليس كونه التزاماً دينياً بنظرهن، وإنما لأسباب مرضية أحياناً، فمريضات الثعلبة والسرطان اللواتي تعرضن لتساقط شعرهن بالكامل مثلاً، حتى الأوروبيات منهن، يعانين من تطفل مجتمعي حول ارتدائهن لغطاء الرأس بسبب الإعلام والقوانين التي تهاجم قرار المسلمات بارتداء الحجاب.
أمام حملات الساسة والإعلام الشعبوية، والتي تهاجم حجاب المسلمات في أوروبا حتى أصبح الحجاب مرتبطا مجتمعياً بنظرة القسر وإلغاء حقوق المرأة بالاختيار، تجاهل هؤلاء الساسة والمشرعون والقضاة أبسط حقوق الإنسان الشخصية، وهي حريته الشخصية في التعبير عن مظهره وملكيته جسده، بذلك يكون هؤلاء الساسة والقضاة أشد تطرفاً من الحركات الأصولية التي تفرض الحجاب قسراً ببعض المناطق في العالم، فمن أصدر وحارب من أجل تلك القرارات التي تضيّق على المسلمات ينطلق من نظرة استعلاء على المكونات الثقافية للمهاجرات واللاجئات والمواطنات المسلمات في أوروبا.
يعتبر الحجاب لدى العديد من الثقافات رمزا شعبيا ورمزا ثقافيا، ولا يعبر لديها عن التزام ديني أو أخلاقي، فاللباس الأفغاني سواء للرجال أو النساء جزء من ثقافة الزي الشعبي في تلك المنطقة، ومحاولة فرض "كود" معين للمظهر الخارجي على اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا من ثقافات عدة، يعني أن هنالك ثقافة تعد نفسها متفوقة في اختيارها لزيها الشعبي والرسمي على ثقافة أخرى، وهذا منافٍ لحقوق الإنسان، وحق المرأة بالتحديد في تقرير عقيدتها ودينها ومظهرها الخارجي.
إن القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية التي تقضي في قضايا دول الاتحاد الأوروبي محبط لملايين المسلمات في أوروبا ممن يرتدين الحجاب، ويعرضهن للتمييز ضدهن في سوق العمل، ويحدد فرصهن في المشاركة في المجال العام والحياة السياسية، وهو قانون منحاز لصالح الشعبوية وأصحاب رأس المال، وأرباب العمل الذين أعطتهم المحكمة حق تقرير رفضهم أن يكون من ضمن طاقم عملهم محجبات.
السعار الذي أصاب اليمين المتطرف الشعبوي في أوروبا، والذي بدا في حالة استغلال بائس لحقوق المرأة من أجل الترويج لبرامجه الانعزالية الشوفينية تجاه الإسلام والمسلمات اللواتي يرتدين الحجاب، كان من الأولى أن يوجه للداخل الأوروبي والمؤسسات الأوروبية التي تميز ضد المحجبات، وتلغيهن من أسواق العمل والمشاركة في الحياة العامة بالتدريج بسبب الإحباط الذي تمخض عن قرارات المحكمة الأوروبية.
لا يمكن لليمينيين أو حتى اليساريين الليبراليين في دول العالم بخاصة التي تعادي حرية المرأة في اختيار لباسها كما تريد؛ أن يُبدوا امتعاضهم من احتمالات قمع حركة طالبان للنساء، لما يعبر عنه هذا الامتعاض من تناقض مبدأي، خاصة بأن هذا الجدل وهذا النقاش الدائر والذي تحكمه فوبيا الحركات الإسلامية، صمت عهداً طويلاً حين مارست القوات الأمريكية أفظع الجرائم بحق المجتمع الأفغاني. فحدوث هذا الجدل في أعقاب انسحاب الاحتلال الأمريكي يؤشر على عدم انشغال تلك الأطراف بحقوق المرأة، بقدر انشغالهم بإثبات تفوقهم الأيديولوجي والحقوقي، ودليل ذلك صمتهم على جرائم القوات الأمريكية بحق الأفغانيات، وعائلات الأفغانيات، وتدمير القوات الأمريكية لمجتمع المرأة الأفغانية. وظهور تلك التعليقات بعد صمت طويل يكشف أن هنالك من يريد أن يستمر موت المرأة الأفغانية، لكن أحدهم يريدها أن تموت وهي ترتدي حجابا، بينما الآخر يريدها أن تموت من المعاناة تحت الاحتلال وهي لا ترتدي الحجاب.
التجارة بحقوق المرأة وحرياتها من قبل الأطراف المختلفة أصبح محور جدالات كثيرة، لكن المثير للاستغراب هو قدرة الرجل الأوروبي على أن يوجه تلك الانتهاكات بحق المرأة المسلمة عبر القضاء والتشريع والمؤسسات التنفيذية، ثم خروجه للإعلام للحديث عن حقوق النساء في أوطانهن. هذه الوصاية الفكرية والثقافية والفوقية التي ينظر بها السياسي الأوروبي لتلك الدول لن نشهد لها نهاية في القريب، طالما هو يحمل عقدة تفوق الرجل الأبيض، وحقه في أن يختار لمواطني كل بلد خارج جغرافيته ما يختاره ويرتضيه لأبناء مستعمرات أجداده القديمة!
إن كان هنالك من طريقة لإثبات مخاوف السياسيين الأوروبيين على حقوق المرأة فالأحرى أن يبدأوا في إلغاء تلك القوانين العنصرية التي تستهدف ملايين المسلمات في أوروبا، وإن كان لا بد من مزاودة في إظهار الانحياز لحقوق المرأة وخياراتها، فالأحرى أن تبدأ تلك الأطراف بمزاودة عملية لا نظرية، تكون نموذجاً يحتذى عالمياً في التخلص من الوصاية على جسد المرأة وما يجب أن ترتديه أو تخلعه، من منطلق مبدأي لا انتقائي حقوقي.