خائفاً يترقّبُ، خرجَ موسى عليه الصّلاة والسلام من بلدته ليصل إلى أرض مدين ويتوجّه فورَ وصوله إلى مورد الماء حيثُ الحياة.
وعند ماء مدين رأى مشهداً ليسَ فيه من العجب الكثير، ومع ذلك سطّره البيان الإلهيّ ليرسم لنا الطريق التي هي أقوم تفكيراً ومنهاجاً في الوعي والتّعامل.
وفي هذا المشهد القرآنيّ تجلية لنموذج فذّ للمرأة كما يرسمها القرآن الكريم، ولن أتعرّض لشيءٍ في المشهد إلا ما يتعلّق بصورة
المرأة كما يرسمها القرآن الكريم فيه.
"وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ".
العمل المهنيّ
امرأتان تعملان في رعي الغنم وتسقيان قطيعهما، وتشاركان الرّجال في الموضع نفسه، لكنّهما تحرصان على عدم المزاحمة التي تذهب ببهاء وهيبة الأنوثة، وتفسّران سبب عملهما بعدم قدرة والدهما على العمل.
في الآية نموذجُ المرأة التي تباشرُ أعمالها بنفسها؛ فترعى الغنم وتسقيها دونَ أن تلجأ إلى مزاحمة الرّجال المؤذية لها، وبقيّة من الأعمال التي تطيقُها المرأة وتنسجمُ مع أنوثتها هيَ مثل الرّعي والسقي والذّود. ولم يرَ موسى عليه الصّلاة والسلام في عملهما هذا ما يبعثُ على الاستهجان أو الاستنكار، بل رأى موقفاً يحول بينهما وبين أداء عملهما ممّا دفعه إلى التّدخل والتّساؤل.
التّواصل الرّاقي مع الرّجال
رآهما موسى عليه الصّلاة والسّلام، فأقبل عليهما بما تفرضه الرّجولة والشّهامة والخلق القويم وقد رأى فتاتَين تحجزان قطيعهما عن الماء، فسألهما بكلّ أريحيّة وهدوءٍ وانضباطٍ وهو الذي لا يعرفهما من قبل: "مَا خَطْبُكُمَا"، فلم ترتعد فرائصهما ولم تصرخا في وجهه، وأجابتا بكلّ هدوءٍ ووضوحٍ وأريحيّة: "لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ"، فما كان منه إلّا أن بادر في الخدمة "فَسَقَىٰ لَهُمَا". ولم يستثمر خدمته هذه في تحقيق مآربَ شخصيّة أو أهواء ذاتيّة له منهما، بل ابتعدَ عن المكان "ثمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ".
وفي الآية ترسيخ لنموذج التّواصل الرّاقي بين الشّابّ والفتاة على وفق ما تفرضه رجولته وشهامته، وما تقتضيه المقاصد العالية من التّواصل.
الحياء الذي لا يخدشُه الانخراط في سوق العمل
في الردّ على أولئك الذين يردّدون أنّ المرأة التي تنخرط في سوق العمل يزول بريقُ حيائها، ويذوي حياؤها كلّما كان عملها مرهقاً أو فيه تواصل تفرضه طبيعةُ العمل مع الرّجال؛ فيأتي البيان الإلهيّ في تجلية النّموذج إذ يقول ربّنا تعالى:
"فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ"، فالحياءُ كان معجوناً في مشيتِها وفي سلوكها وفي حديثِها، ولم يُذهب بهاءَه عملُها في الرّعي، ومعاركتُها للأغنام طيلة اليوم، واحتلابها آخر النّهار، وتواصُلها الرّاقي مع الرّجال عند مورد الماء.
النّاطقة باسم أبيها
كان موسى عليه الصّلاة والسّلام يجلسُ بعيداً في الظلّ، فلم تجد الفتاة حرجاً في أن تبادره هي فتأتيه متسربلةً بحيائها لتشكره على موقفه الشّهم، بل لم تجد غضاضة في أن تباشر هي دعوته باسم أبيها إلى بيته. فلكم أن تتخيّلوا أنّ القرآن الكريمَ يضربُ لنا نموذج الفتاة الشّابة النّاطقة باسم أبيها، والوكيلة عنه في دعوة الشّاب الذي أسدى لها معروفاً إلى بيته، وصدّر الموقف بوصفها بالحياء حتّى يردّ على الذين يتخيّلون أن فعل المرأة لهذا كلّه يتناقضُ مع مبادئ الحياء.
ولم يجد نبيّ الله موسى عليه الصّلاة والسّلام أيّة غضاضة في إجابة دعوةٍ تبلّغه إيّاها "امرأة"، ولم يرَ في ذلك ما ينقص من رجولته وما يتعارض مع مكانته؛ فلبّى الدّعوة راغباً مقبلاً وجالسَ والدَها، "فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".
تلميح الفتاة لأهلها برغبتها في الخطبة
عبّرت ابنة الرّجل الصّالح عن رغبتها بالرّاحة من العمل المرهق في رعي الأغنام، وطلبت من أبيها أن يبرم عقد إجارة بينه وبين هذا الشّاب الشّهم، نبيّ الله موسى عليه الصّلاة والسّلام، قائلةً: "يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ". ولم تكتفِ بهذا، بل عدّدت محاسنه المؤهّلةَ له والدّافعة لترشيحه أمام أبيها قائلةً: "إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ"، فلم يزجرها أبوها ولم يتّهمها بقلّة الحياء؛ بل لمس منها رغبةً داخليّة بهذا الشّاب وفهم من كلامها أنّه تلميح برغبتها في الارتباط به.
يقول سيّد قطب في الظلال: "واستجابَ الشّيخ لاقتراح ابنته، ولعلّه أحسّ من نفس الفتاة ونفس موسى ثقةً متبادلة، وميلاً فطريّاً سليماً، صالحاً لبناء أسرة.
والقوّة والأمانة حين تجتمعان في رجلٍ لا شكّ تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوّث ولم تنحرف عن فطرة الله، فجمع الرّجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين، فإن زادها إلى عشرٍ فهو تفضّل منه لا يلزم به".
اخطب لابنتك
كثيرون يردّدون "اخطب لابنتك قبل أن تخطب لابنك"، لكنّ الواقع الاجتماعيّ يشهدُ أنّ الحالات التي يتمّ فيها ذلك أندر من النّادر، ويعدّ النّاس فعلَ ذلك يزري بالرّجل، فيضرب البيان الإلهيّ نموذجاً فذّاً إذ يقول والد الفتاة الحيية لموسى عليه الصّلاة والسّلام: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ".
ويعلّق سيّد قطب على الآية في الظلال فيقول:
"وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد - ولعله كان يشعر كما أسلفنا - أنّها محدّدة، وهي التي وقع التّجاوب والثّقة بين قلبها وقلب الفتى، عرضها في غير تحرّج ولا التواء، فهو يعرض نكاحاً لا يخجل منه، يعرض بناء أسرة وإقامة بيت. وليس في هذا ما يخجل، ولا ما يدعو إلى التّحرّج والتّردّد والإيماء من بعيد، والتّصنّع والتكلّف ممّا يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة؛ تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدّم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته، وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم، أو لا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة!
ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أنّ الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدّثون ويختلطون ويتكشّفون بعضهم لبعض في غير ما خطبةٍ ولا نيّة نكاح، فأمّا حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح، فيهبط الخجل المصطنع، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة!".
وفي هذا نموذجُ الأب الغنيّ الذي اختار لابنته شابّاً فقيراً، فالمال ظِلّ زائل، لكنّ الرّجولة والشّهامة صفةٌ باقية راسخة. وفي المقابل، لم يجد نبيّ الله موسى عليه الصّلاة والسّلام أيّ حرجٍ في الزّواج من فتاةٍ عاملةٍ، ولم يخطر بباله كونها عاملة أنّه لا ينبغي له الزّواج بها كونها مكتفية وقويّة و"مسترجلة" لأنّها انخرطت في سوق العمل.
هكذا يضرب لنا البيان القرآنيّ نموذجاً نسائيّاً فذّاً، للفتاة التي تنخرط في سوق العمل دون أن يؤثّر ذلك على حيائها الطبعيّ الذي لا تكلّف فيه، ولا يخدشه تواصلٌ راشدٌ منضبطٌ مع الرّجال من أهل الشّهامة والمروءة، وهذا النموذج يبُنى في بيتٍ جعلها ناطقةً باسم أبيها؛ ومنحها حريّة التعبير عن الذّات إلى حدّ التعبير عن الرّغبة بالارتباط الزّوجي بشخصٍ معيّن ليقوم الأب بكلّ بساطةٍ بخطبته لها. فلم يذكر اسم الفتاة ولم يذكر اسم أبيها، فليس الاسمُ هو المهمّ، بل المهمّ هو النّموذج الذي ينبغي أن يترسّخ في العقول والنّفوس الرّاشدة.
twitter.com/muhammadkhm