هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان آخر مقال لي هنا بعنوان "البرهان يكشف أوراقه"، وعنيت من ذلك أن رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، نزع جانبا من القناع الذي ظل يرتديه طوال ثمانية عشر شهرا، ظل خلالها يزعم بين الحين والحين أنه يتعهد بالالتزام بالوثيقة الدستورية التي تم صوغها بعد سقوط حكم عمر البشير في العام 2019، والتي تقضي بأن تكون الحكومة في جوهرها ومعظمها مدنية، على أن يشغل خمسة من الجنرالات مقاعد في مجلس السيادة (الرئاسة) من بين أحد عشر مقعدا.
ثم جرت محاولة انقلابية في 21 أيلول (سبتمبر) المنقضي، فإذا بالبرهان ينتقل من موقع عسكري إلى آخر، ليس لإدانة المحاولة ولكن لإدانة الحكومة التنفيذية ذات الطابع المدني، وظل يعتلي المنابر ويخاطب العساكر بلغة شيخ القبيلة، أي أنه عمد إلى التهييج والإثارة لشحن العسكريين عاطفيا ضد القوى المدنية، بالزعم أن الجيش يتعرض لهجوم لاذع وقاس، وكان في هذا يقول عن وعي أو غفلة أنه الجيش، وأن المساس به مساس بالجيش.
والقادة الغوغائيون، وفي كل بلد وملة ونحلة يميلون لارتجال الخطب، لأنهم عندها يندفعون بلا كوابح، ويتجاوبون مع "جمهورهم" في غياب نص يقيد حركة ألسنتهم، بل ولوحظ أن البرهان كان يرتجل خطبه ويلوح بإصبع السبابة غاضبا في وجوه الأعداء (المدنيين)، ثم يطبطب على ظهور الجند بالقول بأنهم الأوصياء على البلد والحكم والتغيير الذي طرأ بسقوط نظام البشير..
وعندما توالت الردود القاسية عليه من الدوائر الحكومية والسياسية بأنه لا هو ولا الجيش وصي على البلاد، بل إنه مجرد شريك في الحكم في سياق شراكة أملاها خوف المدنيين من أن يواصل هو وصحبه الولوغ في الدماء، كما فعلوا في الثالث من حزيران (يونيو) 2019 عندما تم تنفيذ خطة عسكرية محكمة لقتل عدد هائل من الشباب الذين أحدثوا التغيير وأرادوا حراسته ـ عندما جاءت تلك الردود قوية وحاسمة على لسان زميل له مدني في مجلس السيادة، أصيب البرهان بارتفاع الأدرينالين في جسمه وأرغى وأزبد وهدد وتوعد.
ثم جاء الدور على محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي نصبه البرهان نائبا له في مجلس السيادة بلا سند قانوني أو دستوري، وحميدتي هذا ممن يقول عنهم المثل السوداني "قام من نومه ولقى كومه"، أي أنه لم يبذل أي جهد لينال أكوام الفرص التي حظي بها في السنوات الأخيرة، وتحول من تاجر بسيط إلى عسكري برتبة عميد في مليشيا قبلية، ثم أسبغ عمر البشير على تلك المليشيا صفة رسمية "نظامية"، وصار حميدتي لواء ثم فريقا ثم فريقا أول، ثم الرجل الثاني في هياكل الحكم في السودان، ومن الطبيعي أن شخصا صعد صاروخيا في السلم العسكري ثم السلم السياسي الحكومي، يصبح شديد الطموح ويكون ميالا إلى الاعتقاد بأنه أهل للمنصب الأول (الرئاسة) في البلاد.
وحميدتي هو أكثر رجالات الحكم في السودان عشقا للمنابر والأضواء، ومارس خلال العامين الماضيين مخاطبات عامة بأكثر مما فعل أعضاء مجلسي السيادة والوزراء مجتمعين، ولكنه مثل البرهان يختار جمهوره بعناية، حتى يضمن التصفيق والاستحسان، ولهذا فإن معظم خطبه تكون أمام جنوده، أو القيادات القبلية المعروف عنها أنها "مع كل حكومة".
لا أعتقد أن هدير الملايين في الشوارع رفضا لحكم العسكر يزعج البرهان أو حميدتي كثيرا، فقد أثبتت الوقائع أنهما غير معنيين بـ "بالرأي العام" فالدكتاتور أو مشروع الدكتاتور غير معني إلا بطموحه الشخصي ويحسب أنه متى ما حقق ذلك الطموح قادر على إخراس كل صوت معارض بالقوة القاهرة.
ووجد حميدتي في هجوم البرهان على القوى المدنية فرصة لـ "يفش غله" فيها، فهو لن ينسى لتلك القوى أنها من تصدت له في الأشهر الأولى التي تلت سقوط حكم البشير، وكالت الاتهامات للقوات التي يقودها هو، بل واتهامها بأنها ضالعة بقوة في مجازر 3 حزيران (يونيو)، فما كان منه إلا أن زاد "العيار" فوزع الاتهامات يمنة ويسرة بحق المدنيين في الحكومة، ثم كان التهديد بتسليم وسائل الإعلام فلاشات (ذاكرات تخزين بيانات) تحوي مداولات "المدنيين" في دهاليز الحكم.
ثم أعلن البرهان وحميدتي عن أنهما سيقاطعان الاجتماع بالمدنيين في الحكومة، ثم سحبوا الحراسات من ممتلكات وعقارات مستردة من رموز حكم البشير صادرتها لجنة تابعة لمجلس السيادة، ولكن يعيب عليها الجنرالان أنها مدنية بالكامل، وكانا يأملان تفكك اللجنة بعدما أوعزوا لرئيسها العسكري بالاستقالة منها والتشهير بها، ومع هذا يظل الرجلان يتشدقان بأنهما معنيان بأمن الوطن والمواطن.
بل إن غضب حميدتي حاق بالمجتمع الدولي الذي أدان المحاولة الانقلابية ثم تبارى أقطابه لدعم الحكم المدني، فقد كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والنرويج الأجهر صوتا في مساندة الشق المدني في الحكومة السودانية، ثم كان ما كان يوم الخميس الماضي عندما أخرجت مدن السودان أثقالها عندما خرج الملايين إلى الشوارع رفضا صريحا وحاسما لأي محاولة من جانب العسكر لنسف نظام الحكم المدني، ومواصلة التمدد في مفاصل الحكم، بل سيرت بعض المدن القطارات ورفدت مواكب الخرطوم بعشرات الآلاف من المحتجين، وبموازاة ذلك نظمت الأمم المتحدة فعالية للتضامن مع الحكم المدني في السودان، وخاطب الفعالية الأمين العام للمنظمة أنطونيو غوتيرش..
ولكنني لا أعتقد أن هدير الملايين في الشوارع رفضا لحكم العسكر يزعج البرهان أو حميدتي كثيرا، فقد أثبتت الوقائع أنهما غير معنيين بـ "بالرأي العام" فالدكتاتور أو مشروع الدكتاتور غير معني إلا بطموحه الشخصي ويحسب أنه متى ما حقق ذلك الطموح قادر على إخراس كل صوت معارض بالقوة القاهرة.
وبالمقابل فإن قوى الثورة الحية في السودان أرسلت رسالتها في مواكب الخميس الماضي إلى عسكر السلطة، وكان لافتا أن البيان الذي وقع عليه أكثر من ثمانين كيانا نقابيا وسياسيا للدعوة إلى مواكب الخميس جاء في استهلاله: ها مرة أخرى سنخرج للشوارع شاهرين هتافنا / ولسوف تلقانا الشوارع بالبسالات المضادة للعساكر والمساخر.