أصبحت شديدة الحساسية من كتابة أو قراءة مقال ترد فيه جملة ما بعد "حدث هام" ليس كما قبله، فقد يدفعنا الحماس نحن معشر الكتاب، وتختلط الأمنيات مع سخونة الأحداث ونتوهم بحدوث زلزال يقلب كل الموازين رأسا على عقب، ويغير جميع الأوضاع التي لطالما كرهناها ورفضناها ونادينا مراراً وتكراراً بتغييرها. وتغلب أحلامنا على صورة الواقع الأليم الذي خلّف أمراضاً مستعصية على العلاج السريع، بل تحتاج لجراح ماهر جريء لا يرهبه صراخ زعيم طائفي ولا يردعه قائد مليشيا!!
أقول هذا بمناسبة مرور عامين على ثورة
لبنان في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وخروج الجماهير الغفيرة من كل حدب وصوب تطالب بإسقاط الحكومة والرئيس، بل بإسقاط النظام الطائفي كله، رافعة شعار "كلن يعني كلن". وتشابكت الأيادى الشيعية مع السنية مع المسيحية، وتوحدت حناجر المتظاهرين في ترديد هذه المعزوفة البديعة "كلن يعني كلن". كان مشهدا رائعاً لم يشهده لبنان من ذي قبل، ما دفعنا نحن الكتاب سريعاً للتعبير عن تلك اللحظة النادرة والثمينة، وكتبنا "لبنان ما بعد 17 تشرين ليس لبنان كما قبلها"..
ولكن كان لزعماء الطوائف رأي آخر وموقف مختلف، رغم الرعب والفزع الذي أصابهم من ذلك المشهد المهيب.. الكل كان يخشى على سيادته.. على طائفته التي أوهمها أنه الحامي لها من شر الطوائف الأخرى والحافظ لهويتها، فاندفع الناس وراءه بلا وعي ودون تفكير. وتحصن كل زعيم بدولة ما تحميه وتدعمه إزاء الطوائف الأخرى ليضمن استمرار زعامته. وهكذا بات لبنان يُحكم من الخارج، فإيران تحمي طائفة الشيعة، والسعودية تحمي طائفة السنة، وفرنسا والغرب عامة يحمي الطائفة المسيحية، وأصبحت هذه الدول تنقل صراعاتها وحروبها مع بعضها البعض إلى أرض لبنان الخضراء الجميلة والجبال الساحرة، ذات الطبيعة الخلابة.. درة الشرق أو كما كان يسمى "سويسرا الشرق"..
في تلك اللحظة التي تشابكت فيها أيدي اللبنانيين من جميع الطوائف، خاف زعماء الطوائف أن يُسحب البساط من تحت أقدامهم، وتحسسوا على ثراواتهم التي نهبوها من دم وأموال هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره
في تلك اللحظة التي تشابكت فيها أيدي اللبنانيين من جميع الطوائف، خاف زعماء الطوائف أن يُسحب البساط من تحت أقدامهم، وتحسسوا على ثراواتهم التي نهبوها من دم وأموال هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره، فسارع "نبيه برى"، رئيس مجلس النواب ورئيس حركة أمل، بإرسال أزلامه المسلحين لقنص المتظاهرين المتوجهين لمجلس النواب، مهددين بقطع ألسن من ينطق بسوء عن زعيمهم، واتجهوا إلى ساحة الشهداء، مكان الاعتصام، وحطموا وأحرقوا الخيام ليلاً، وأطلقوا الرصاص على المعتصمين، مرددين "شيعة شيعة شيعة"، للغلوشة أو للتشويش على "كلن يعني كلن"!
واتهم أمين
حزب الله "حسن نصر الله"؛ السفارات الغربية في لبنان بأنها وراء هذه التظاهرات وأنها الممول لها، وأن تلك المظاهرات مؤامرة خارجية على لبنان والمستهدف بها حزبه، وهدد وتوعد كل من يطالب بإسقاط الرئيس الذي أتي به على عينه ونصبه على اللبنانيين ليكون كخيال مآتة؛ يبصم ويختم على كل ما يريده، ويظل هو يحكم لبنان من ورائه، أو بالأحري تظل إيران الحاكم الفعلي للبنان.. ألم يقلها يوما أحد المسؤولين الإيرانيين، أن إيران تحتل خمس عواصم عربية وأولها العاصمة اللبنانية؟
للأسف انفض الجمع، وتوحد زعماء الطوائف واستطاعوا تقسيم الشارع الواحد إلى شوارع وتفكيك المتظاهرين إلى قبائل طائفية ومذهبية، وانغلقت كل طائفة على نفسها تحت مظلة زعيمها للاحتماء به والحفاظ على هويتها المذهبية، بدلاً من هويتها اللبنانية التي تجمع الكل تحت مظلتها.. وهكذا تمكنوا من وأد الثورة اللبنانية بالمؤامرة والخيانة، ككل ثورات الربيع العربي، وعادت الأوضاع كما كانت من قبل وربما أسوأ مما كانت عليه، وأُسقطت مقولة "لبنان ما بعد 17 تشرين ليس كما قبلها"!!
توحد زعماء الطوائف واستطاعوا تقسيم الشارع الواحد إلى شوارع وتفكيك المتظاهرين إلى قبائل طائفية ومذهبية، وانغلقت كل طائفة على نفسها تحت مظلة زعيمها للاحتماء به والحفاظ على هويتها المذهبية، بدلاً من هويتها اللبنانية التي تجمع الكل تحت مظلتها
وبعد أشهر معدودة جاء الحدث الجلل الذي زلزل لبنان كله، بانفجار رهيب فى مرفأ بيروت، راح ضحيته ما يقرب من 200 قتيل وآلاف الجرحي والمصابين وعشرات الآلاف من المنازل المهدمة والمتضررة. وبين هول الفاجعة وألسنة النيران والدخان الذي غطى سماء بيروت، تساءل الناس: من أين أتت تلك الأطنان الهائلة من نترات الأمونيوم التي سببت هذا الانفجار الفظيع؟ ولماذا تركوها كل هذه السنوات وبجانب الأحياء السكنية؟ ولمَن تعود؟! واتجهت أصابع الاتهام إلى حزب الله؛ إما لاستخدامها في الداخل وقت الحاجة أو لإرسالها إلى سوريا لإحراق المتظاهرين بالبراميل المتفجرة، كما حدث من قبل أثناء الثورة، خاصة أن تخزينها كل هذه المدة يتوافق زمنياً مع ذلك الفعل الإجرامي لنظام بشار المجرم.
وطالب المتضررون بتحقيق دولي في البداية، ولكن لم توافق دولة حزب الله، فاضطر الرئيس ميشال عون إلى إسناد التحقيق إلى وزارة العدل، والتي تولت بالفعل التحقيق في ملابسات الحادث.
ويبدو أن القاضي المُكلف بالتحقيق قد توصل للجاني ولكنه اضطر أن يتنحي تحت ضغوط سياسية مورست عليه، وعينوا بدلاً منه القاضي "طارق البيطار"، وهو ما لا يروق أو يعجب رئيس دولة حزب الله، حسن نصر الله، فأخذ يكيل له الكيل ويهاجمه على مدار أربعة أشهر في كل خطاباته، لتحريض طائفته ضده ثم هدد بخلعه؛ لمجرد أنه تجرأ وأصدر استدعاء ومذكرة توقيف للوزير والنائب عن حزب أمل "على حسن خليل"، وهو بالمناسبة الذراع السياسي لبري، فقامت الدنيا ولم تقعد لدى الحليفين الشيعين، إذ أرسل نصر الله مسؤوله الأمني "وفيق صفا" إلى قصر العدل مهدداً ومتوعداً القاضي بالقبع، ومتهما إياه بالعمالة للأمريكيين، وبدأت
حملة تحريضية مسعورة ضده على قنواتهم ومواقعهم الإخبارية والصحف الموالية لهم أو المحسوبة عليهم، تنقل أخبار غير موثقة عن لقاءاته مع السفيرة الأمريكية دوروثي شيا ومع البطريرك بشارة الراعي، وأن المستهدف من هذا التحقيق هو المقاومة وسلاح حزب الله لصالح الكيان الصهيوني..
ثم وضع الحزب رئيس مجلس الوزراء بين خيارين أحلاهما مر؛ إما التعطيل وخاصة أنه يملك الثلث المعطل الحريص عليه والشرط الذي يضعه ملزما أمام أي رئيس مكلف لتشكيل الحكومة، أو إقالة القاضي البيطار، وصولا إلى إنزال جماهير الحزبين إلى الشارع للوصول إلى قصر العدل في الشياح للاحتحاج على القاضي البيطار، كنوع من الإرهاب، ومواجهة العدالة بالمنطق الانقلابي نفسه، واستخدام السلاح والترهيب والعنف والقوة لإسقاط مسار العدالة في انفجار مرفأ بيروت، بالضبط كما فعل في أحداث أيار عام 2008، حين بسط "حزب الله" سيطرته العسكرية على بيروت للإمساك بتداعيات مقتل رئيس الوزراء الراحل "رفيق الحريري"، وبعد انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، حين هاجم محازبوه المتظاهرين وكسروا وحرقوا خيامهم وسط بيروت..
وحدثت الأحداث المؤسفة في ساحة الطبونة في المنطقة الفاصلة بين منطقة بدارو ذات الأغلبية المسيحية وقصر العدل الذي توجهت إليه مجموعة مسلحة من حزب الله وحركة أمل، تقابلها مجموعة مسلحة أخرى من حزب القوات اللبنانية. وتحولت المنطقة إلى ساحة حرب، ولم يعد معروفا مَن يصوب على مَن! وصارت طلقات الرصاص وقذائف آر بي جي تتطاير في جميع الأنحاء..
أعادت مشاهد القناصة الملثمين وخطوط التماس بين عين الرمانة والشياح في بيروت؛ كابوس الحرب الأهلية التي شهدها لبنان في منتصف السبعينيات والثمانينيات، على مدار 17 عاما!
أعادت مشاهد القناصة الملثمين وخطوط التماس بين عين الرمانة والشياح في بيروت؛ كابوس الحرب الأهلية التي شهدها لبنان في منتصف السبعينيات والثمانينيات، على مدار 17 عاما!
والغريب أن تحدث هذه المواجهة القتالية، رغم تواجد الجيش في تلك المنطقة الحساسة، مما يضع علامات استفهام تعطي انطباعا أو إيحاءً قوياً، بأنها معركة معد لها سلفاً، وليس مجرد تظاهرة خرجت عن مسارها السلمي، وخاصة أنها في نفس المنطفة التي اشتعلت منها شرارة الحرب الأهلية اللبنانية (عين الرمانة)، ولكن في هذه المرة كانت بين المسيحيين والمسلمين الشيعة وليس بين المسيحيين والفلسطينيين ومعهم المسلمين السنة كما كان في الحرب السابقة. وكان أنصار الفريقين يتنقلون بدراجات بخارية ويحملون أسلحة خفيفة، ويرفعون شعارات طائفية. ويبدو أن هذا كان الغرض أو المطلوب، أي التحشيد الطائفي بحيث ينقلب استدعاء علي حسن خليل إلى هجوم على طائفة بأكملها، وخاصة أنهم كانوا يصيحون: شيعة شيعة شيعة..
تبادل الطرفان المتعاركان الاتهامات، فالقوات اللبنانية حمّلت الثنائي الشيعي مسؤولية الهجوم، بينما حمّل الثنائي الشيعيُّ القواتِ مسؤولية قتل أفراده. وأيا كان البادئ من الطرفين أو مَن تقع عليه مسؤولية الهجوم الذي أسفر عن مقتل سبعة أشخاص وجرح وإصابة العشرات، فإن النتيجة أو المعنى المستخلص من هذه المعركة المؤسفة، أن هناك احتقانا طائفيا عميقا لدى اللبنانيين لم يعد مخفيا في الصدور، بل يظهر عن وجهه القبيح كلما سنحت له الفرصة، وقد منحها لهم هذه المرة حسن نصر الله وسمير جعجع..
لم يكد يهدأ صوت الرصاص الحي، حتى بدأ إطلاق رصاص من نوع آخر أكثر دوياً وضجيجاً، حيث بدأت الاشتباكات الكلامية والتجاذبات السياسية بين نصر الله وجعجع. فلقد ألقى نصر الله خطابا الأسبوع الماضي، ادعى فيه أنه حمى المسيحيين طوال العقود الثلاثة الماضية، مهدداً
سمير جعجع بالاسم وليس بالتلميح، متهماً إياه بأن أجندته هي الحرب الأهلية في لبنان، وأنه أكبر خطر على المسيحيين، وأنه يموّل من السعودية وأنه يدعم داعش وجبهة النصرة، وقال له اعقل وتأدب،
مستعرضا قوته العسكرية للشعب اللبناني كله بأن لديه 100 ألف مقاتل جاهزين..
لم يكد يهدأ صوت الرصاص الحي، حتى بدأ إطلاق رصاص من نوع آخر أكثر دوياً وضجيجاً، حيث بدأت الاشتباكات الكلامية والتجاذبات السياسية بين نصر الله وجعجع
وبالطبع نفى جعجع اتهامات نصر الله، واعتبرها هراء وكذبا فاضحا وحجة إضافية لكي يخرج من ورطته، مدعياً أن مشروع حزب الله هو مشروع مدمر للبنان، وما تشهده البلاد هذه الأيام هو بداية تنفيذ هذا المشروع..
جاء هذا وسط تداول أنباء أن المحكمة العسكرية أستدعت رئيس حزب القوات اللبنانية، ليرد جعجع بأنه في حال صحت هذه المعلومات فيجب التعامل بالمثل مع حسن نصر الله واستدعاؤه أولاً للتحقيق، فهو رئيس حزب لبناني شرعي تحت القانون ولكن الطرف الثاني يعتبر نفسه فوق القانون والقضاء العسكري يجاريه بهذا الاعتقاد..
ولا نعرف نهاية لهذه التجاذبات السياسية، والتي لم يقصّر في خوضها محازبو الطرفين المتصارعين في جميع قنواتهم وصحفهم لتزداد اشتعالاً ولهيباً، وربما يحترق فيها
تحقيق المرفأ خوفاً من نشوب حرب أهلية، خاصة في ظل الاتهامات للقضاء!!
من المؤسف أن انفجار المرفأ المروع يجري توظيفه سياسياً وطائفياً، وواضح أن حزب الله يريد اغلاق الملف وطي الصفحة تماما، ولكن لماذا يخاف الحزب من التحقيق طالما أنه يدعي أن نترات الأمونيوم لم تكن خاصة به ولا للنظام السوري؟ حقا "كاد المريب أن يقول خذوني"..
الصراع في لبنان عميق وممتد إلى تضارب محورين ومخططين والضحية دائما هي الشعب اللبناني، وكأنه مكتوب عليه العذاب. فليضيفوا إلى عتمة لياليه وقسوة نهاراته تهديدات السيد وتصعيد الحكيم، ليعيشوا في رعب دائم!!
twitter.com/amiraaboelfetou