أشرنا من قبل إلى أن الاستخفاف يُعَدُّ أعلى مراحل
الاستبداد بما يصنعه من أحوال، وبما يلازمه من خطاب. ومن أخطر خطابات الاستبداد هو ذلك الخطاب الذي يتعلق بحالة الاستخفاف وصناعتها، فما بالك إن كنا أمام ما يمكن تسميته بالاستخفاف المركب؟ ذلك أن الاستخفاف قد يشكل حالة بائسة يستمرئ فيها المستبد ظلمه ويعلن عن فوائد طغيانه، إلا أن أخطر ما يكون حينما يطالبنا المستبد المستخف بأن نصدقه في استخفافه ونعلن تأييدنا في إذلاله للمواطنين، ونسبح بحمد خطاياه، ونطالبه بالمزيد من استبداده وممارسات استخفافه.
ولعل ما يقوم به نظام الثالث من تموز/ يوليو من خطاب متكرر ومتواتر حول أمور تتعلق بالمواطنين وهمومهم ومعاشهم، يعبر عن خطاب الاستخفاف اليومي الذي لا يمارسه الإعلام فحسب، ولكن تمارسه كل الدوائر الحكومية ومؤسسات هذه المنظومة الفاشية. هذا الاستخفاف اللعين ارتبط دائما من خلال عالم المستبدين بمطالبتهم للآخرين بالطاعة لهذا الاستخفاف، على الرغم من فجاجته وخطابه المشين.
وهو إذ يقوم بعمليات تترجم معاني الهوان والإهانة والمهانة، فإنه يمارس ذلك ليس في اللفظ فحسب ولكن في السياسات أيضا، مقدما كل أنواع الفساد والاستبداد وكأنه حالة إصلاحية تقوم على قاعدة من العبودية والقهر، إلى جانب استخفافه بقهر المواطن مطالبا إياه مع طقوس الظلم اليومية بألا يتألم، بل عليه أن يلهج بالحمد للمستبد وشكره على عظيم إذلاله واستعباده.
ولعل هذا الاختلال القائم على الاستخفاف والقهر والخوف إنما يشكل في حقيقة الأمر محاولة من تلك المنظومة الفاشية أن تحدث حالة من غسيل المخ الجماعي، وكأن لسان حال المستبد وهو يقوم بهذا الاستخفاف والإذلال يردد أن هذا الشعب لا يعرف مصلحته، وغير مؤهل، وأن المستبد خبير به، وعارف بمصالحه، ويقوم بكل ما من شأنه أن يقود إلى إعدامه في الوقت الذي يردد باستخفاف شديد أنه يقوم على إحيائه.
مشاهد ذلك كثيرة تتعلق بوعود كاذبة ذكرها المنقلب في بداياته؛ لم تكن في حقيقة الأمر إلا وعودا زائفة كاذبة تصدّر الأوهام وتقوم على قاعدة من مشاريع وهمية. ولنتذكر هنا حينما وردت الأنباء بعد الحديث عن الفائدة القصوى التي ستترتب على التفريعة الجديدة التي قام بإنشائها في قناة السويس، مؤكدا أن الدخل سيتضاعف؛ فإذا الأمر ينكشف ودخل القناة يتراجع، فما كان منه استخفافا إلا أن صرح بأنه قد قام على هذا المشروع ليس بغرض أو مشروع ذي جدوى اقتصادية، ولكنه فقط كان من قبيل رفع الروح المعنوية.
وحينما يدبج استراتيجية لحقوق الإنسان فإنه لا يتحدث في الحقيقة عن بنود وخطوات يمكن أن تطبق في ظل التوقف عن الانتهاكات المستمرة إلى حد القتل للإنسان وحقوقه، فيؤكد في خطابه مستخفا أنه فقط يريد أن يشعر المواطن
المصري بأن حقوقه ليست منتهكة.
كل تلك المغالطات والاستخفافات إنما تشكل سمة لخطاب المستبد؛ فهو خطاب عبثي في مسائل لا تحتمل العبث أو الهزل، لأنها تتعلق بحياة الناس ومعاشهم وضروراتهم اليومية. وبدا كل ذلك الخطاب المستخف في أشكال كثيرة، وبصورة متكررة، فلا يمر يوم إلا ويخرج علينا بعض وزرائه ضمن حديث المغالطات والزيف؛ يقومون بعزف تلك المقطوعة الاستخفافية مطالبين الناس بتصديقهم والسير في ركابهم. إنها حالة القطيع، يحاول هؤلاء من كل طريق أن يمكنوا لها ضمن هذه المنظومة الفاشية الفاسدة والفاشلة، فيقلبون الأمور زورا وبهتانا فيسمى فسادهم إصلاحا، ويسمى ظلمهم حقوقا، ويسمى فشلهم نجاحا. ومن المهم أن نؤكد أن الكذب والظلم الذي يشكل بيئة وحالة الاستخفاف تكلفته أعلى من إقرار العدل وتمكين الإنصاف.
ولعل الأمر يتأكد لنا من خلال خطابات ومشاهد عدة تراكمت في الآونة الأخيرة؛ فوزير التموين في مصر المحبوسة يبرر كل تلك الأمور التي تتعلق بغلاء الأسعار وتراكم المكوس والضرائب والتفنن فيها، ضمن عقلية الجباية. بدا هؤلاء يعبرون بتعبير مستخف، وهو أن تلك السياسات الظالمة التي تطلق غول الغلاء وترفع الأسعار وتفرض المغارم والجبايات؛ تصب في النهاية في مصلحة المواطن. وقد أسموا كل ذلك من قديم بتحريك الأسعار، وترشيد الدعم، وذلك ضمن هذه المنظومة التي تقوم باغتصاب الكلمات وقلب معانيها، فإن وزير التموين يخرج علينا بمفردات جديدة من مثل "على المواطن أن يشارك في امتصاص موجة التضخم القادمة.. وعلينا أن نتحمل مع بعض الموجة التضخمية ومش هنعرف نزود الدعم للسلع".
فها هي السلطة المستبدة لا تتكلم بصيغة "نحن" مع المواطنين إلا في الكوارث والمصائب، فيما عدا ذلك يكون خطاب السلطة "أنتم يا مصريين". وها هي السلطة تريد أن تغتصب كافة موارد المواطنين إن كان بعضها موجودا والتي نجت من قناة السويس، أو من تعويم الدولار، أو من غلاء الأسعار والضرائب المتعددة التي باتت المصدر الوحيد للنظام بجانب الديون في توفير موارده، ومع ذلك يحذر الوزير أو يبشر بموجة جديدة من الغلاء ورفع الدعم والتضخم.
وفي سياق يتعلق باستمرار عملية الاستخفاف، فقد استبدل الانقلاب ترسانة قوانين مجحفة بقرار الطوارئ الذي لم يكن إلغاؤه من أجل المواطن أو عموم الناس، بل كان ذلك ضمن ترسانة الزور والتزييف التي يطلقها النظام في محاولة لتجميل قبحه في ملف
حقوق الإنسان وانتهاكاته الفاضحة.
فقد أقر مجلس النواب مؤخرا ثلاثة قوانين تحول حالة الاستثناء إلى حالة دائمة تجعل
السيسي يهتف "أنا الدولة"، "أنا الطوارئ"؟؟ على غرار "لويس" صاحب مقولة "أنا الدولة"، بعد أن حاز على جميع السلطات التي كان يقرها قانون الطوارئ. فهناك تعديلات على قوانين حماية المنشآت العامة والعقوبات ومكافحة الإرهاب.
يشمل التعديل الأول مشاركة القوات المسلحة لجهاز الشرطة في حماية منشآت مثل محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وخطوط السكك الحديد وشبكات الطرق والكباري.. وغيرها، بشكل دائم، ويكون القضاء العسكري المختص بالنظر في جميع القضايا التي تستند لهذا القانون بشكل دائم أيضا، وليس القضاء العادي ولا النيابة العامة، على أن يعمل بهذه التعديلات بأثر رجعي بداية من الخميس الماضي (28 تشرين الأول/ أكتوبر) الماضي.
أما التعديل الثاني فيشمل منح رئيس الجمهورية عند فرضه حظر التجوال أو إخلاء بعض المناطق أو عزلها عند وجود خطر وجود جريمة إرهابية في منطقة محددة؛ أن يحدد الجهة المختصة بإصدار القرارات المنفذة لتلك التدابير، فضلا عن تحديده عقوبة السجن المشدد أو الغرامة لمخالفة التدابير.
وشملت تعديلات قانوني الإرهاب والعقوبات تشديد العقوبات على قضايا من طبيعة حرية الرأي والتعبير، من مثل تصوير جلسات المحاكمة في الجرائم الإرهابية بدون إذن رئيس المحكمة، وكذلك تشديد العقوبات لكل من يقوم بجمع الاستبيانات أو الإحصائيات أو إجراء الدراسات لأي معلومات أو بيانات تتعلق بالقوات المسلحة أو مهامها أو أفرادها الحاليين أو السابقين بسبب وظيفتهم؛ بدون تصريح كتابي من وزارة الدفاع، ويعاقب بالعقوبات نفسها على الشروع في ارتكاب تلك الجرائم، الأمر الذي ينطبق عليه وصف أحد القضاة بأن التعديلات السابقة بمثابة تقنين للإجراءات الاستثنائية بموجب الدستور وليس قانون الطوارئ.
ولنا لقاء في المقال القادم بحول الله مع ذلك "الاستخفاف الكبير والمركب" و"السجن فرصة حياة".
twitter.com/Saif_abdelfatah