هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
على طريقة "اللقطة"، التي تفنن فيها النظام بأذرعه الإعلامية، دخلت مصر مضمارا وهميا لخوض سباق محموم في مجال حقوق الإنسان، فجاء الإعلان عن سجن بمواصفات خاصة لاستيعاب المعتقلين، بالتوازي مع إنهاء حالة الطوارئ المفروضة على البلاد، وأخيرا ترؤس مندوب مصر في الاتحاد الأفريقي جلسة مجلس السلم والأمن لحماية المدنيين خلال الحروب.
يكاد الإنسان يفقد صوابه عندما يطيل النظر في أحوال المحروسة، التي بلغ هوس مسؤوليها بالدعاية الإعلامية للإنجازات الافتراضية حدا لا يصدق، وبعد إعلانات الكباري والفنادق والمنتجعات السياحية جاء الدور على السجون، لتشغل اللقطات التي تظهر الرفاهية المطلقة والرعاية البالغة بالمسجونين وإعادة تأهيلهم بدنيا ونفسيا؛ مساحات إعلانية واسعة في قنوات النظام، إلى الحد الذي يتمنى فيه البعض قضاء عطلة نهاية الأسبوع في منتجع مماثل، أملا في أن يحظى بخدمة تضاهي تلك التي رآها على شاشة التلفاز.
يسوّق النظام للمنجز الجديد على أنه أحد أبرز الحلول للتكدس الحاصل في السجون وأماكن الاحتجاز المختلفة، ويتناسى أن التكدس الأكبر موجود بمقار الاحتجاز في أقسام الشرطة، وهو ما يعبر بوضوح عن حالة من الفشل الذريع للمنظومة الأمنية والقضائية على السواء؛ فالجهات الأمنية التي تعتقل لمجرد الاشتباه وبتهم ملفقة ومحاضر تحريات تخلو من أية قرائن أو أدلة إثبات؛ تتعنت في إخلاء سبيل المتهمين إذا حصلوا على إخلاء سبيل، بل تخفيهم في مقرات الأمن الوطني، وتعيد تدويرهم على ذمة قضايا جديدة إذا لزم الأمر، ولا تجد النيابة العامة بدا من تجديد حبس المتهمين دون حضورهم، فيجتمع على المسجون مرارة الظلم بالاعتقال غير المبرر والحبس الاحتياطي طويل المدى.
لا يختلف الأمر كثيرا عند النظر إلى القضاء، الذي يصدر أحكاما قاسية لا تمت للواقع بصلة، وتعكس حالة من المكايدة السياسية بدافع الانتقام وفقط، في ظل استمرار الإبعاد المتعمد للمنظمات الحقوقية والجهات الرقابية، وغياب الشفافية، وتضارب الأرقام حول العدد الحقيقي للمعتقلين في السجون المصرية، بما يعطي انطباعا واضحا حول واقع الحال بمصر؛ فالنظام ليست لديه نية في الإفصاح عن أعداد السجناء، وهو أمر لا يحتاج إلى تجهيزات خاصة أو تقنيات معقدة، ويمكن أن يتم من خلال وسائل أقل تطورا من بطاقات هيرمان هولليريث التي أحصى بها عدد سكان الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، أو حتى مدخلات الدفاتر اليومية في السجون.
هذه الفجاجة التي يجري بها التسويق لمنتج النظام الجديد في وادي النطرون، لم يكن الهدف منها تخفيف وطأة السجن عن المعتقلين أو توفير مكان آدمي لهم، كما أرادت آلة النظام الإعلامية تصديره. وظهر القصد جليا عندما أوضح أحد أبرز الأذرع الإعلامية أن الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو إخلاء مجمع سجون طرة، واستخدامه في التسويق العقاري لمشاريع سكنية واستثمارية، نظرا لموقعه الجغرافي المميز على بعد كيلومترات من وسط القاهرة، والذي يعطي قيمة سوقية كبيرة للأرض حال بيعها بالمتر.
منطق التجارة وشغف "البزنس" سار جنبا إلى جنب مع مسعى النظام لتسويق وجهة نظر مغايرة عن الملف الحقوقي، حتى ظهر المنجز المزعوم الذي تكلف مئات الملايين في أقل من سنة، في حين تعاني المستشفيات من نقص حاد في الأسرّة والمعدات والمستلزمات الطبية، ولا يجد طلاب المدارس مكانا يجلسون عليه، لكن هذا لا يأتي على قائمة أولويات السلطات المصرية بالطبع، ولا يعنيها سوى إرسال رسالة إلى العالم الخارجي تفيد بأنها تسير على الطريق الصحيح وأن كل شيء تحت السيطرة.
الانتقادات الخارجية المتتالية للملف الحقوقي بمصر، دفعت النظام للبحث قسرا في دهاليزه ومخازنه عن وسائل أخرى لتجميل الوجه القبيح الذي أفرزته سنوات القمع والانتهاكات وسحق الكرامة الإنسانية. وعبّر عن هذا الاتجاه الإعلان عن إيقاف العمل بقانون الطوارئ، وهي رسالة خارجية أيضا، نظرا لتحكم النظام بشكل كامل في السلطتين التشريعية والقضائية؛ فالقضاء لا يمكن أن يصدر أحكاما تخالف هوى النظام؛ والمجلس النيابي - إذا جاز التعبير - أعلن موافقته عن حزمة جديدة من التشريعات لمواجهة خطر الإرهاب واستهداف المنشآت العامة، عبر تحويل جميع القضايا المتعلقة باعتداءات في منشآت حكومية إلى القضاء العسكري، بما يمثل ردة إلى الوراء وعودة مقنّعة إلى الطوارئ مرة أخرى.
أحدث صيحات التجميل الحقوقي، ظهرت منذ أيام قليلة، بعدما أعلن عن ترؤس مصر جلسة مجلس السلم والأمن الأفريقي لحماية المدنيين خلال الحروب، وهي إحدى جلسات الاتحاد الأفريقي التي ترفض الانتهاكات الحقوقية والاعتداءات على المدنيين، رغم السجل المصري الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان، والذي دفع اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان إلى إصدار قرار بتعليق تنفيذ أحكام الإعدام في قضية "اعتصام رابعة" في وقت سابق قبل ترؤس مصر للجلسة، وذلك بناء على شكوى وصلتها من إحدى المنظمات الحقوقية.
علامات الداء الحقوقي في مصر باتت واضحة للجميع، وتتجلى أبرز أسبابه في غياب الشفافية والمصداقية بعد التحكم الكامل في مصادر المعلومات، واستبعاد المراكز البحثية الموثوقة وإهمال أبجديات الإحصاء، إضافة إلى تحويل اهتمامات الشرطة إلى تأمين النظام وتغطيته سياسيا على حساب الأمن العام، حتى ازدادت وتيرة الجرائم، ومنها جرائم بشعة لم يعتدها المجتمع المصري كحادثة الإسماعيلية، وهي بطبيعة الحال نتاج طبيعي لغياب الأمن، والشعور الداخلي الذي ينتاب المواطن المصري حاليا بأن الحق لا يمكن أخذه عبر الاحتكام إلى مواد الدستور والقانون، ويتعين أن يسلك طرقا أخرى.
هذا القهر غير المسبوق، وتلك الجرائم المتتالية بحق الشعب المصري، لن تمكن النظام بطبيعة الحال من تسويق رؤيته الأحادية أو إنجازاته المزعومة في ملف حقوق الإنسان، أو تجميل وجهه القبيح ولو استخدم مساحيق الدنيا، والضابط في هذا الأمر هو شعور المواطن بالحرية والكرامة الإنسانية، وهي أمور غير متوافرة في مصر حاليا.