قضايا وآراء

الهجرة من الظلم إلى المجهول

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
عرف الإنسان الترحال منذ أن خلق الله الأرض وأوجد عليها أسباب الحياة، وظلت الأجيال تتوارث هذا القانون الطبيعي منذ القدم، وإن اتخذ أشكالا منظمة تارة وعشوائية تارة أخرى وفق دوافع الاحتياجات الأساسية التي تشكل أبرز عوامل النزوح أو الهجرة المؤقتة، لتحقيق التوازن المطلوب إما بتوجيه الاستيطان نحو مصادر الثروة، أو نقل الثروة إلى البشر من خلال التجارة.

وكانت الهجرة دائما وسيلة متاحة لتغيير واقع أليم، أو البحث عن مستقبل أفضل، لكنها ازدادت صعوبة، واتخذت أشكالا معقدة بعد ازدياد متطلبات السفر، والتشديد المبالغ فيه على الحدود الجغرافية المصطنعة، والتي تعتني بها كل دولة لحماية أراضيها ومكتسباتها المادية، ليبدأ مسلسل الهجرة غير الشرعية في الظهور، وتتوالى حلقاته بما تحمله من نجاحات وإخفاقات يكون الدافع وراءها البحث عن حياة أفضل.

ازدادت وتيرة الهجرة الشرعية في مصر مؤخرا بعد شعور طاغ باليأس من الأوضاع المعيشية الصعبة، وحالة التضخم التي تأكل مداخيل العائلة جميعا فلا يصمد أمامها شيء، حتى بات مواطن لا يستطيع الوفاء باحتياجات أسرته الأساسية، ويجد صعوبة شديدة في إطعام أولاده، ولا يتمكن معظم الشباب من الاستقلال عن عائلاتهم ماديا، فضلا عن تكوين أسر جديدة، بعدما أغلقت في وجوههم جميع الأبواب.

وتصعب مقاومة هذا التوجه كثيرا في ظل التباهي الذي يصدر عن الذين خاضوا تجربة الهجرة غير الشرعية، ومظاهر الترف التي تبدو عليهم، وما يصورونه من حياتهم اليومية ويضعونه على صفحاتهم بوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل من هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر تتحول إلى حلم يراود الشباب ويسعون لتحقيقه عند أول فرصة تتاح أمامهم.

هذه الصورة القاتمة التي يعكسها واقع الحال في مصر تدفع الشباب إلى الاختيار المر ودخول معترك الهجرة غير الشرعية، بتسليم أنفسهم لمن يتاجر بأحلامهم، لتطالعنا الأخبار بصفة دورية عن غرق قوارب في البحر المتوسط تحمل مهاجرين امتزجت أحلامهم بزبد البحر، وقضت أمواجه العاتية على آمالهم في الحصول على حياة أفضل، وكان آخرها قرية تلبانة التابعة لمركز المنصورة، والتي تحولت إلى مأتم كبير، بعدما فقدت أحد عشر من أبنائها، انطلقوا في رحلة هجرة غير شرعية إلى إيطاليا عبر ليبيا.

لا يحتاج الأمر إلى إعمال العقل كثيرا لإدراك أن العامل الاقتصادي بتعقيداته المختلفة هو المكون الأساس لمعادلة الهجرة غير الشرعية، ولا سيما بعد تآكل الطبقة المتوسطة، وما نتج عن ذلك من تفاوت رهيب بين طبقتين؛ إحداهما تمتلك المال والسطوة المستندة إلى القرار السياسي، وأخرى مطحونة لا تملك من مقومات الحياة شيئا، ويظهر ذلك بوضوح في نسب البطالة المرتفعة، والتباين في الأجور بين فئات معينة من الشعب مثل الجيش والقضاء عند مقارنتهم بموظفي الهيكل الإداري في الدولة.

وإذا سلمنا بالأرقام التي يصدرها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - ولا يوجد غيرها لغياب المراكز البحثية المستقلة - فإن نسبة البطالة بلغت في الربع الثاني من العام الجاري 7.4 في المائة، وهو ما يعني وجود ما يقارب سبعة ملايين ونصف المليون مواطن غير مستوعبين داخل سوق العمل المصري. كما أوضحت الأرقام زيادة معدلات الفقر بوتيرة منتظمة خلال العقدين الأخيرين حتى بلغت ذروتها بنهاية عام 2018 لتصل إلى 32.5 في المائة، وإن تراجعت قليلا خلال عام 2020 لتسجل 29.7 في المائة.

ومن عجائب القدر أن النظام الذي يسوق لنفسه لدى الغرب على أنه السد المنيع الذي تنكسر أمامه موجات الهجرة غير الشرعية، ويحول دون وصول أفواج المهاجرين إلى شواطئ القارة العجوز، يثبت فشله يوما بعد يوم في إقناع مواطنيه بجدوى البقاء في أرضهم، بعدما فشل في جذب المستثمرين إلى مصر، رغم المؤتمرات وحملات الدعاية التي تكلف خزينة الدولة ملايين الدولارات، ليستفيق الشعب المسكين على مآس تستعصي على الحصر.

علاج الهجرة غير الشرعية إذا لن يكون بالمؤتمرات، أو عرض مزيد من الخدمات على الدول الأوروبية كما يفعل السماسرة، وإنما يكمن الحل في تنمية يلمس آثارها المواطن، ويشعر بانعكاساتها على حياته اليومية، بعدما أنهكه ازدياد معدلات البطالة، وارتفاع منسوب التضخم، والفساد الضارب أطنابه في مفاصل الدولة، والبيروقراطية التي تتحطم على صخورها آماله وتطلعاته.

الدولة التي وقفت عاجزة عن حماية شبابها، تتذرع دائما بتقديم حلول بديلة، مثل الاقتراض من أجل إنشاء المشروعات الصغيرة، وفي أغلب الأحوال تنتهي تلك الحلول المؤقتة بكارثة عائلية بعد خسارة رأس المال، لعدم وجود مستشارين ينصحون الشباب أو يوجهونهم نحو الوجهة السليمة والاستثمار الأمثل، ليكون السجن هو المحطة الأخيرة، بعد تعثر هؤلاء المساكين في سداد أقساط وفوائد القروض. وقد هالني ما سمعته من رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، التي تحدثت عن موازنة بين السجن بسبب القروض أو الموت غرقا، لتحث الشباب على اللجوء إلى قاعدة أخف الضررين، ويكون السجن هو الخيار الأمثل في تلك المرحلة حالكة السواد من عمر مصر.

إذا كانت التنمية مستعصية على المسؤولين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المحروسة؛ فإن هناك بعض الإجراءات العاجلة التي يمكن اتخاذها، ولن تكلف الكثير ومردودها الاقتصادي عظيم؛ ومن أبرزها تحسين العلاقات مع الإخوة في ليبيا، وفتح الحدود وإعادة حركة الطيران كسابق عهدها؛ وهي دولة شقيقة تحتاج إلى الشركات المصرية والعمالة في البناء والتعمير وتلبية احتياجات سوق العمل. ويمكن أن يساعد هذا الأمر في توفير المبالغ الطائلة التي يدفعها الشباب للمهربين من أجل السفر إلى ليبيا - كمحطة للعمل أو الهجرة غير الشرعية - ومنع ما يترتب على ذلك من الهلاك في الصحراء، أو على يد العصابات المسلحة وتجار البشر.

على الجانب الآخر من الحدود، وتحديدا الحدود الشرقية مع قطاع غزة، ما الذي يضير السلطات المصرية لو قررت فتح معبر رفح البري بشكل دائم بدلا من استخدامه كأداة للتنكيل بأهالي القطاع؟ وماذا يمكن أن يحدث لو أقامت سوقا حرة في تلك المنطقة لتلبية احتياجات أهالي القطاع المحاصر، والاستفادة من غزة اقتصاديا بدلا من استعداء أهلها وقتلهم بالغازات السامة في الأنفاق؟

إن مراجعة السياسات الحالية الخانقة للحريات والطاردة للموارد البشرية من أهم أولويات المرحلة، كما أن تخفيف القبضة الأمنية التي تعصف بكل من يظهر على وجهه علامات عدم الرضا عن سياسات دولة الأمر الواقع بات ضرورة؛ لأن الأيام القادمة لا تبشر بخير على الإطلاق، وطالما استمرت هذه الإجراءات المجحفة بحق المواطنين، والشباب على وجه الخصوص، ستزداد وتيرة الهجرة غير الشرعية؛ فالمحصلة واحدة عندما ينقطع الرجاء، ويزداد منسوب اليأس ليصل إلى مرحلة يتساوى فيها الموت مع الحياة.
التعليقات (0)