هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تتقدم امرأة من سيارة إيريك زمور، بعد أن أقنعت حرسه أنها من مؤيديه، فيفتح الرجل النافذة لعله يظفر بما ينقذ زيارته لمدينة مارسيليا من الفشل الذريع، ليفاجأ بالمرأة وهي ترفع سبابتها الوسطى في وجهه في حركة بذيئة لم يتأخر في الرد عليها بالمثل، وهو ما التقطته عدسة مصور وكالة الأنباء الفرنسية لتكون تتويجا لأسبوع جرّب فيه زمور، لأول مرة على ما يبدو، معنى أن تكون مرشحا وتنزل إلى الميدان، بعد أن ظل لفترة طويلة "ظاهرة تلفزيونية" تتقيأ على المتابعين أفكارا سعى دوما لأن تكون مثار جدل، يرفع من شعبيته لدى الناقمين على سياسيي اليمين واليسار على حد سواء.
ففي زيارة له، قبل أيام، إلى مدينة مارسيليا، ووجه إيريك زمور، الذي أعلن ترشحه بعدها رسميا للانتخابات الرئاسية الفرنسية، بمطاردة منظمة من طرف جماعات تُعرّف نفسها أنها "معادية للفاشية" بشكل اضطره لتقليص مدة الزيارة وإلغاء بعض من فعالياتها المبرمجة.
تأتي هذه الزيارة "الانتخابية" في ظل تراجع "الظاهرة الإعلامية" في استطلاعات الرأي لمحدودية ما يقدمه من حلول للأزمات المستعصية بفرنسا داخليا وخارجيا، وأيضا لظهور عدد من الفضائح التي بدأت تكشف عن وجه خفي للمرشح الذي كان محتملا فصار رسميا.
النبش في تصريحات وكتابات الرجل كان كافيا لمواجهته بحجم التناقضات والأخطاء التي يسقط فيها قصدا أو جهلا، وهو ما فعله مذيع النشرة الرئيسية لقناة "تي أف 1"، الأكثر مشاهدة بفرنسا، وهو يستقبله مرشحا رسميا كما جرت العادة مع كل أقرانه، فكانت النتيجة أن خرج زمور من اللقاء التلفزيوني يشكو حوارا على شكل "استنطاق بوليسي"، كلف الصحفي المحاور سبا وقذفا نقله شهود بعد انتهاء اللقاء.
لكن "الفضيحة" الأكبر كانت نشر إحدى المجلات تقريرا كشف أن مستشارته الأقرب سارة كنافو حامل منه، وهو العدد الذي حاول إيريك زمور منع صدوره بقرار قضائي؛ بدعوى كونه تدخلا في الحياة الشخصية للأفراد، لكنه فشل في مسعاه. لم يكن الإشكال في وجود علاقة جنسية بين المعنيين، بل في تناقض ذلك مع ما يحاول زمور تصديره للفرنسيين من كونه مدافعا عن الهوية الفرنسية الكاثوليكية اليهودية الملتزمة بالشرف وبالعائلة كيانا أساسيا للبناء. الشعارات الانتخابية ليست إلا واجهة للاستهلاك ولو في بلاد الأنوار، والصحافة وسيلة للسخرية من الأديان والأنبياء، أما رموز اليمين المتطرف، فمقدسون في حياتهم الشخصية وفي ما يدسونه من سموم في المجتمع يحظر الاقتراب منها أو التصوير.
لم يكن إيريك زمور وحيدا في مسعاه لمنع الحقائق من الظهور، فقد سبقه نيكولا هيلو، الذي ظل لسنوات الشخصية المفضلة للفرنسيين قبل أن يصبح وزيرا للبيئة في الحكومة الأولى لإيمانويل ماكرون، حين أسرع إلى استوديو أخبار قناة بي أف أم الإخبارية، ليدحض اتهامات له بالتحرش والاعتداء الجنسي، ويندد بما أسماه "المحاكمات الإعلامية"، محاولة منه للضغط على قناة "فرانس 2"، وهي قناة تتبع القطاع العام، والهدف "منع" بث برنامج استقصائي يروي شهادات عدد من النساء يدعين تعرضهن للاعتداء على يد نصير البيئة وصاحب برنامج "أوشوايا" ذائع الصيت.
لم تكن تلك المرة الأولى فقد سارع إلى انتهاج الخطة الاستباقية نفسها قبل أربع سنوات، حين ظهرت أولى التسريبات بالخصوص، وهمت حفيدة الرئيس فرانسوا ميتران، فكان الرد دعوى قضائية بالتشهير ضد المجلة الناشرة، التي انتهى المطاف بها إلى الإغلاق. يومها، تلقى وزير البيئة دعما غير مسبوق من الرئيس ماكرون، وسارعت وزيرة المساواة بين الجنسين، مارلين شيابا، للتشكيك في رواية المجلة وتمجيد زميلها الوزير، وهي المعروفة بدفاعها "المرضي" عن النساء؛ بغية التمكين لهن في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب.
هنيئا لفرنسا "إيريكيها" الاثنين، وهنيئا لإيمانويل ماكرون الطريق المعبدة لولاية ثانية على رأس قصر الإليزيه، فليس اليوم من أحد أفضل منه لدعم الديكتاتوريات وإشعال حرائق الذاكرة والتعصب الديني بطريقة "أنيقة"، لا يتقنها غيره من رواد الفكر اليميني العنصري.
فرنسا التي لا يتورع ساستها في الضرب على وتر المرأة وحقوقها كلما تعلق الأمر بأبناء الجاليات المسلمة بالبلاد أو بوضع المرأة في البدان العربية على الخصوص، صارت اليوم مسرحا لفضائح تتكشف يوما عن يوم، وتظهر تواطؤ الطبقة السياسية في التغطية على ممارسات تحط من قدر النساء، وتجعلهن مجرد سلعة جنسية للتأثيث وللترفيه عن الذكر "المسيطر" ليس إلا. هي نفسها فرنسا التي تبين عجز ترسانتها القانونية في حماية الفرنسيات، في وقت لا تفوت فيها مناسبة دون حشر أنفها في شؤون الدول بدعوى حماية النساء.
وها هو وزير خارجيتها جان إيف لودريان، الذي بيعت الأسلحة بالملايير وعقدت الاتفاقيات الأمنية والاستخبارية في عهده للدول التي يعتبرها الخطاب الإعلامي "استبدادية"، حين كان وزيرا للدفاع وتوطدت بعدها وهو وزير للخارجية، يسأل عن مصير لاعبة التنس الصينية بنغ شواي، ويبكي مصائر اليزيديات وغيرهن، دون أن يرف له جفن أو يصدر عنه تلميح لمصير بنات مصر وليبيا المعتقلات، والمقتولات والمعتدى عليهن وعلى حقوقهن بسلاح وجهد استخباراتي فرنسي.
الاعتداءات الجنسية في فرنسا صارت المادة الأدسم للإعلام بعد أن تحررت الضحايا وصرن أكثر إقبالا على الكلام. مواقع الجرائم توزعت بين قصر الإليزيه حيث يعتدى على المجندات، وفي مجلس الدولة حيث المتهمون قضاة، وفي المؤسسات الصحفية مغامرات لكبار الصحفيين، وفي الكنائس قساوسة يقدمون النصح الديني ويغتصبون الأطفال القصر على مدار عقود، ارتفعت خلالها أعداد الضحايا لما يفوق ربع مليون طفل، وهو عدد مهول يعلن صراحة أن الممارسات تلك شائعة وتحظى بـ"الحماية" أو التجاهل؛ فـ"العقوبات" نقل للقساوسة لمواصلة المشوار بدل العزل والعقاب، كما هو الشأن ببقية فضاءات "المرض الفرنسي" المستعصي على العلاج.
لقد كان الجميع يعلم ولا يزال، لكن المشرعون والساسة ومرشحو الانتخابات يعلمون أيضا أن وتر اللجوء والهجرة والعدو الخارجي ممثلا في "الإرهاب المحتمل"، أقصر الطرق المعبدة للوصول إلى مراكز القرار ولو كان ذلك على حساب أجساد النساء والأطفال.
الجمهوريون الديغوليون لم يجدوا من رد على "اكتساح" أفكار زمور اليمينية المتشددة للفضاءين الإعلامي والعام بفرنسا غير محاولة الدفع بـ "إيريك سيوتي" مرشحا محتملا للرئاسيات، بعد أن بوؤوه الصدارة في المرحلة الأولى من الانتخابات الحزبية الداخلية. سيوتي كائن كاريكاتوري في الفضاء السياسي الفرنسي كما زميله إيريك زمور.
فهنيئا لفرنسا "إيريكيها" الاثنين، وهنيئا لإيمانويل ماكرون الطريق المعبدة لولاية ثانية على رأس قصر الإليزيه، فليس اليوم من أحد أفضل منه لدعم الديكتاتوريات وإشعال حرائق الذاكرة والتعصب الديني بطريقة "أنيقة"، لا يتقنها غيره من رواد الفكر اليميني العنصري. أما فرنسا فمريضة، رغم مكابرة قادتها، ومرضها مستفحل لا ريب سينتشر في الجسد كله بالداخل وفي المناطق الفرنسية خارج البحار، وفي مناطق النفوذ التقليدية التي صارت تنفرط كالسبحة إيذانا بالموت والفناء.