هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعيش تونس على وقع الذكرى الأولى من العشرية الثانية لثورة الحرية والكرامة التي كانت شرارتها الأولى في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 بالرفض والاحتجاج والشهداء والجرحى وتاريخ تتويجها بسقوط نظام الفساد والاستبداد يوم 14 كانون الثاني (يناير) 2011.
إلى حد ذلك فإن ما حصل كان ثورة مكتملة الأركان وما دون ذلك من ادعاءات فهي باطلة مردودة على أصحابها.
ولا عبرة بالفصل بين 17 و14 فهما كل لا يتجزأ والادعاء أن يوم 17 هو تاريخ الانفجار الثوري ويوم 14 هو تاريخ الالتفاف على الثورة حديث لا معنى له بميزان العقل والمنطق والتاريخ، إذ أن لكل بداية نهاية وعلى أهمية البدايات فإن العبرة بخواتم الأعمال والخاتمة كانت بفرار رأس النظام وسقوط منظوته بكل أركانها.. فهل يكون الاحتفال بالخاتمة أم بالبداية التي لا أهمية لها دون نهاية ناجحة؟ ثم ماذا يعني القول إن يوم 14 كانون الثاني (يناير) هو يوم الالتفاف على الثورة؟؟ فهل كان فرار رأس النظام وسقوط منظومته هو التفاف على الثورة؟ إذا كان الامر كذلك فما هو النجاح إذن؟ وهل إن تعثر الانتقال في أي فترة كانت من المسار يعني الالتفاف على الثورة؟ أم هي مسوغات لا علاقة لها بالثورة ولا بمسارها؟
ثم دخلت البلاد بعد ذلك في مرحلة البناء الديمقراطي أو ما اصطلح على تسميته بالانتقال الديمقراطي، وهي مرحلة من أصعب المراحل في حياة الأمم والشعوب تكون محفوفة بالصعوبات والمخاطر وتنكشف أثناءها كل عورات الاستبداد والفساد، وخاصة الاقتصادية منها والاجتماعية وغالبا ما تتساوى فيها فرص النجاح وإمكانيات الفشل ناهيك عن الانتكاسات والتراجعات.
وقد خاضت تونس مسار انتقالها طيلة العشرية الماضية ضمن سياق دولي متقلب وسياق إقليمي غير مستقر ومستهدف للتجربة، حيث ظهرت خلاله عدة اخلالات ونقاط ضعف أهمها:
ـ وضع بقايا المنظومة القديمة وأذرعها الوظيفية لأسس الانتقال الديمقراطي من خلال الحكومتين الأولى والثانية والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ـ قانون الاحزاب ـ قانون الجمعيات ـ القانون الانتخابي ـ قانون العفو التشريعي العام وما يعنيه ذلك من وضع لبذور فشل المسار.
ـ هشاشة الأرضية السياسية للبناء الديمقراطي بسبب ضعف المنظومة الحزبية الراجع إلى تصحر الحياة السياسية زمن الاستبداد وعدم نضج منظومة الانتقال.
ـ ضعف الثقافة الديمقراطية لدى نخب الانتقال الديمقراطي أو انعدامها أحيانا فلا وجود لثقافة التعايش السلمي والقبول بالآخر والاحتكام للصندوق بل ساد الرفض والتنافي وهيمنة النزعة الاستئصالية ومنطق الإقصاء والحقد الأيديولوجي وأصبح الانتقام من المنافس مقدم على الحرية فبدت الديمقراطية التونسية وكأنها بلا ديقراطيين!!!
ـ انعدام النضج السياسي والمسؤولية الوطنية لدى بعض مكونات منظومة الانتقال الديمقراطي، حيث أصر البعض منها إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي على إدارة المرحلة على أساس ثنائية الحكم والمعارضة بدل التوافق والوحدة والوطنية وبناء الكتلة التاريخية مما جعل الصراع يحتد قبل وضع أسس البناء الديمقراطي وسرعان ما أدى أواخر 2012 إلى التوتر الذي وفر المناخ لما حصل من اغتيالات واستهداف للمسار سنة 2013.
ـ عدم جاهزية الأطراف الفائزة في انتخابات 2011 لإدارة الدولة مع ما مارسته بقايا المنظومة القديمة وأذرعها الوظيفية من إعاقة وتعطيل كادت تنهي المسار لولا سياسة التوافق التي جاءت بعد انسداد كامل للأفق السياسي، ولم تكن متكافئة لا قبل انتخابات 2014 أثناء الحوار الوطني ولا بعدها، ولم تكن ممأسسة بل كانت مجرد تفاهمات ثنائية دون برنامج سياسي أو اقتصادي أو إجتماعي مما غيب طيلة المرحلة الاستحقاق الاجتماعي للثورة وفاقم النقمة على منظومة الحكم "التوافقية".
ـ مبالغة حركة "النهضة" في السعي للاندماج في النخبة دون جدوى على حساب انتظارات جمهور الثورة وفي تغليب التكتيكات الظرفية على الخيارات الاستراتيجية.
ـ عدم إدراك النخبة السياسية وعلى رأسها "النهضة" لمقتضيات لحظة 2019 التي كان فيها المزاج العام الشعبي أقرب لثورة ثانية والتي كانت تتطلب تغييرا جوهريا في الوجوه والسياسات مع وجود ضعف فادح في الاستشراف والاستباق أدى إلى منظومة حكم هشة ومتنافرة زادتها الخيارات الفاشلة والأزمة المركبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تفاقما، خاصة بعد التعطيل المتعمد لسير مؤسسات الدولة وتعميق الأزمة الصحية الناجمة عن الكوفيد 19 مما أغرى الأطراف المتربصة للانقلاب على الديمقراطية بدعوى تصحيح مسار الثورة.
فهل كان ماحصل يوم 25 تموز (يوليو) 2021 فعلا تصحيحيا لمسار الثورة؟ أم هو مسار مضاد للثورة؟ وهل كان مسار الثورة في حاجة إلى تصحيح؟.
رغم سلبية مصطلح التصحيح لما له من بعد بيداغوجي مدرسي ولاعتماده كعنوان لحركات وأحداث انقلابية دموية في تاريخ الشعوب وخاصة العربية منها، فإن مسار الثورة قد كان في حاجة إلى تصحيح أو بالأحرى إلى مراجعة وتعديل لبوصلته، وهذا لا يعني إلغاءه بالكامل واعتباره عشرية سوداء كما ادعى البعض لا بياض فيها. وقد تبين أنها عدمية لا تنطلي على عاقل رغم كثافة الدعاية والتشويه والافتراء وتصيد الأخطاء وتضخيمها ضمن مخطط لترذيل الثورة ومسارها والدولة ومؤسساتها.
يصبح ما حصل يوم 25 تموز (يوليو) 2021 مسارا مضادا للثورة وإجابة خاطئة زادت الأمر تعقيدا، حيث أدخلت البلاد في عزلة دولية وجعلتها مهددة فعليا بالإفلاس، وعمقت اليأس في نفوس التونسيين، دون أن توجد إلى حد الآن أية بوادر للعودة للديمقراطية والتخلي عن الانفراد بالسلطة
لقد حقق مسار الانتقال في عشريته الأولى كثيرا من الإنجازات وعلى رأسها تجذر الحرية في نفوس التونسيين بكل أجيالهم، الذين أثبتوا في الأشهر الأخيرة رفضهم التفريط في حريتهم تحت أي ذريعة لأنها المدخل الأساسي للكرامة والتنمية وتجاوز المأزق الاقتصادي والاجتماعي.
لذلك يصبح ما حصل يوم 25 تموز (يوليو) 2021 مسارا مضادا للثورة وإجابة خاطئة زادت الأمر تعقيدا، حيث أدخلت البلاد في عزلة دولية وجعلتها مهددة فعليا بالإفلاس، وعمقت اليأس في نفوس التونسيين، دون أن توجد إلى حد الآن أية بوادر للعودة للديمقراطية والتخلي عن الانفراد بالسلطة، التي لا تعني العودة لما قبل 25 تموز (يوليو) إنما تعني العودة إلى التشاركية عبر حوار وطني جامع لكل مكونات أطراف المشهد السياسي والمدني دون استثناء للخروج بتصور مشترك لخارطة طريق سياسية واقتصادية واجتماعية لحل الأزمة من خلال عودة ظرفية للبرلمان لإجازة ما سيقع التوافق عليه والذهاب لانتخابات رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها.. ما دون ذلك فإن الأوضاع تبدو مرشحة لمزيد التعقيد والتدهور.
فهل يعي العقلاء ذلك حتى تكون الذكرى الحادية عشر للثورة محطة حقيقية لتعديل مسار الثورة والتخلي النهائي عن استهداف الديمقراطية؟
*كاتب وناشط سياسي تونسي