كتب

سبتة الإسلامية.. عندما يكون تصحيح كتابة التّاريخ عملا نضاليا

كتاب في تاريخ مدينة سبتة المغربية المحتلة..
كتاب في تاريخ مدينة سبتة المغربية المحتلة..

الكتاب: سبتة الإسلامية: دراسات في تاريخها الاقتصادي والاجتماعي (عصر الموحدين والمرينين)

الكاتب: محمد الشريف 

الناشر: منشورات جمعية تطاون- أسمير (سلسلة دراسات)
عدد الصفحات: 220 صفحة

1ـ بين يدي الكتاب

هل تنتهج الكتابة التّاريخية الموضوعية سبيلها في النّظر والتحقيق دائما؟ لماذا قال تشرشل إذن "التّاريخ يكتبه المنتصر؟". ولماذا أعلن سارتر أن "الموضوعية شكل متطرف من أشكال الذاتية"؟ لعلّنا أن نجد في مباحث "سبتة" التّاريخية، تلك المدينة المغربية المحتلة التي تقع في الشمال الغربي الإفريقي والخاضعة للسيادة الإسبانية وتتمتّع بحكم ذاتي منذ 1995، بعض الإجابة. 

فلا تخلو الكتابات الإسبانية منها، وفق الباحث محمد الشريف، من ذاتية ومن تزييف للحقائق تبريرا لاحتلالها. ولتفنيد ادّعاءاتها وإبراز هوية المدينة المغربية الإسلامية يعود إلى ماضيها في عهد الدّولة الموحّدية والدّولة المرّينية بين سنتي 1121و1465م. 

2ـ بحث الإسبان في ماضي سبتة تبريرا لهويتها الراهنة

للمدينة اليوم هوية ملتبسة. فثقافتها تظل عربية مغربية، وانتماؤها للمغرب الإسلامي جغرافيا يدعّم ذلك. إنها أندلس إفريقيا التي اختطفتها أوروبا والتي تحتاج إلى حركة استرداد شبيهة بحرب الاسترداد المسيحية التي أعادت الأندلس إلى الحضن المسيحي. وبالمقابل تعدّ ضمن القانون الدولي جزءًا من التراب الإسباني وجزءا من الفضاء الأوروبي الذي تمارس عليه مهام حلف شمالي الاطلسي. والدستور الإسباني يمنع أي مسؤول من مناقشة وضعيتها مع أي طرف خارجي. 

ولأن الضمير الإسباني يظل قلقا أمام حقيقتي التاريخ والجغرافيا نزعت مباحثه إلى التخفّي وراء موضوعية التّاريخ لتزييف الحقائق. فكانت تنقي أزمنة يبدو فيها الحضور المسيحي غالبا على المدينة لمنحها هوية إسبانية. وتقفز على فترات أخرى تكون فيها البصمة المغربية جلية. فتوجه بوصلتها إلى مرحلة سبتة ما قبل الفترة الإسلامية خاصّة وتعتمد نتائج الحفريات الأثرية ونصوص المؤرخين اللاتينيين الكلاسيكيين لتأكيد هذه الهويّة. ولهذا الاختيار بعض الأسباب الموضوعية كالحوافز المادية التي توفرها المراكز العلمية للتشجيع على العمل الميداني. 

 

للمدينة اليوم هوية ملتبسة. فثقافتها تظل عربية مغربية، وانتماؤها للمغرب الإسلامي جغرافيا يدعّم ذلك. إنها أندلس إفريقيا التي اختطفتها أوروبا والتي تحتاج إلى حركة استرداد شبيهة بحرب الاسترداد المسيحية التي أعادت الأندلس إلى الحضن المسيحي.

 



وتتفق هذه المباحث في جعل الفترة المغربية الإسلامية مرحلة عارضة. فتهمل الحفريات والدراسات الأركيولوجية الخاصة بها باعتراف الباحثين الإسبان أنفسهم، على كثرة شواهدها. ولكنّ "[هذه الأسباب تتجاوز قطعا نطاق الاهتمام التاريخي العلمي الصرف، لتلامس أرضية الإيديولوجية الاستعمارية الإسبانية. فهناك توجه قارّ في الدراسات الإسبانية يرمي إلى إيجاد ما يسمى بروابط "الاستمرارية" بين سبتة "القديمة" وسبتة "الإسبانية"]". وعناوين أبحاثهم تكشف بدورها هذه الذّهنية الاستعمارية.

أما الدراسات المغربية الحديثة فتحاول إثبات الهوية الإسلامية للمدينة. "وليس غريبا أن نجد نعت "الإسلامية" لصيقا بأغلب عناوين الدراسات العربية. والواقع أنّ مدينة سبتة بوضعيتها السياسية الحالية ووضعها الاستعماري المفارق، تعيش في عمق الضمير والوجدان المغربي، ولا يمكن تناول تاريخها دون الانخراط فيه بكل الجوارح". 

ولكن للأسف تظل أبحاثا فقيرة لأسباب مختلفة. منها ضعف الدراسات العربية عامة الخاصة بها ومنها إهمال المؤرخين المغاربة للمرحلة ما قبل الإسبانية لمعرفتهم المحدودة بتفاصيلها ومنها الصعوبات التي تعترض الباحث المغربي للحصول على المعطيات الناشئة عن الحفريات بعد أن استولى الإسبان على مقاليد المدينة. فلم يحدث التراكم ولم تتجاوز الكتابات مرحلة الوصف والافتتان التي يغيب فيها العمق التاريخي والبعد الأكاديمي الصارم. 

يحاول الباحث محمد الشريف أن يتدارك هذه الثغرة وأن أن يصحّح التّاريخ ويكشف المغالطات وأن يعمّق المعارف بسبتة في العصر الوسيط من خلال دراسة تاريخها الاقتصادي والاجتماعي. وضمن هذا الأفق يمكن أن ننزل أثره هذا، وهو في الأصل فصلٌ من أطروحة دكتوراه، نشره مستقلا.

3ـ نشاط سبتة الفلاحي في العصر الوسيط

يدرس الباحث المقومات الاقتصادية لـمدينة سبتة في العصر الوسيط، أيام الدولتين الموحدية والمرّينية، مبرزا امتدادها في عمقها المغربي في مختلف المجالات. ورغم أنه يجد المعلومات حول الوضعية العقارية شحيحة، يبحث في خصائص النشاط الفلاحي والصيد البحري عصرئذ. ويجد بعض ضالته في كتب الفقه وفي مناقشات الفقهاء لأحكام المزارعة والمغارسة والمساقاة وفي عملهم على تليين الأحكام تحقيقا للمقاصد. ويبني معلوماته على الافتراض والقياس على شكل الملكية القارية في سائر البلاد المغربية كلّما افتقد إلى الوثائق ليخلص إلى أنّ هذا القطاع الفلاحي كان يمثل نشاطا ثانويا. فالمدينة "مبنية على حجرة" يحيط بها البحر وتعتمد على الخارج في غذائها، باستثناء السمك. ويؤكد المؤرخون ضيق مساحاتها الفلاحية وعدم صلاحيتها لزراعة الحبوب. فابن الخطيب يراها "عديمة الحرث فقيرة من الحبوب" والعمري يعتقد أنّ "القمح لا يزكو نباته في أرضها وإنما يجلب إليها جلبا" ويؤكد الحسن الوزان أنّ بادية المدينة "هزيلة وعرة ولهذا السبب كانت المدينة تشكو دائما من قلة الحبوب". ولغياب أي مجال فلاحي بضواحيها القريبة مثلت بلدة بلينوش حزامها الغذائي. ووجدت حاجتها في عامة الأراضي المغربية كفاس ومكناس ومراكش. 

ورغم صعوبة الوصول إلى الوثائق يورد العديد من التفاصيل التي تساعدنا على إعادة تمثّل النشاط الفلاحي في هذه الفترة من تاريخ المدينة. فقد كان أغنياؤها يشترون الأراضي في الأندلس. ويذكر أعلاما بعينهم كالقاضي عياض وابن هاني اللخمي.

ويبرز من خلال ما توفر لديه من المعلومات حول أساليب استغلال المياه وتذليل مشاكله عمل السبتيين على تحسين تقنيات الريّ. فقد اعتمدوا الآلات الرافعة كالدواليب والناعورات التي يصف تقنياتها بدقة. ورغم وفرة التساقطات فإن توزيع الماء على المزارعين كان ينتهي غالبا إلى صدامات. ويستنتج ذلك من كثرة الأحكام التي انتهى إليها الفقهاء والقضايا التي أفتوا فيها. 

وكانت للصيد البحري أهميته الخاصّة ضمن هذا النشاط الفلاحي. فيجتهد في جمع بياناته واستقرائها. فيعرض أنواع الأسماك ويبرز تقنيات صيدها ويذكر العادات والتقاليد التي ترتبط باستهلاكها. فقد دارت حياة السبتيين حول هذا النشاط. فمارسه الفقهاء والمتصوفة لحسابهم الخاص أو مؤجرين لفائدة الآخرين. وعملت السلطات على تنظيم قطاعه. فكان يشرف عليه عامل المضارب ويساعده أعوان حتى باتت الثروة السّمكية الهائلة قاطرة الحياة الاجتماعة والاقتصادية. ونشأت مهن مرتبطة بها كحفظ السمك وتخزينه وتسويقه. وارتبطت عديد الحرف بصيد المرجان أو ببناء السفن.

4ـ النشاط التجاري: سبتة همزة الوصل بين المغرب والعالم الخارجي

يبرز الباحث تاريخ النشاط التجاري الداخلي والخارجي للمدينة ويعمل من خلاله على تأكيد هوية المدينة المغربية الإسلامية. فرغم شح إنتاج أقاليمها للحبوب مثلت مخزنا للمحاصيل المغربية الموجهة إلى أسواق المتوسط ومركزا تجاريا مهما لها، بالنظر إلى موقعها. وكان ميناؤها همزة وصل بين المغرب وسائر بلدان المتوسط، وكان النشاط التجاري يضمن مداخيل قارة للسلاطين، بعيدا عن تأثير الاضطرابات السياسية التي كانت تشهدها التجارة الصحاروية.

وبقدر ما كانت هذه التجارة تقوي شوكة البلاد بما توفر من مداخيل سهلة، كانت سببا في إنهاكها ودافعا الاستقلالات عن السلطة المركزية، خاصّة حينما يعتريها الضعف. فقد أعلن اليانتشي استقلاله وحكم المدينة من 630ـ633 ه. ثم نحا نحوه ابن خلاص: 635- 639 ه ثم أسس بنو العزفي حكما وراثيا  بدأ منذ 647 واستمر لسبعين سنة وعمل خاصّة على التّعايش مع العالم المسيحي. ويخلص الباحث إلى "أنّ التاريخ السياسي لمدينة سبتة يقدّم مثالا واضحا عن توافق التغلغل التجاري البحري والمسيحي وسيرورة ظاهرة الاستقلال عن السلطة المركزية، ليس فقط عند ضعف هذه الأخيرة وإنما حتى في فترات قوتها".

4ـ السّكان والبنية الاجتماعية

يدرس الشريف التاريخ الديمغرافي للمدينة. فيقسم السّكان إلى ثلاث ديانات رئيسية. فالمسلمون، كانوا يمثلون الأغلبية وهم العرب الفاتحون والبربر المعتنقون للدين الوافد بعد نزاع شديد مع العرب استمر حتى القرن الرابع هجري. أضف إلى ذلك العناصر العربية الوافدة من المجاعة في منطقة شريش الأندلسية. وستشهد المدينة موجة ثالثة من وفود العرب بعد اندلاع حروب الاسترداد المسيحية التي هجّرت الأندلسيين. وكان المؤرخ البرتغالي ماسكرينا قدّر عددهم بمائة ألف نسمة من الأشبيليين فقط. وبيّنٌ أنّ هذا التقدير لا يخلو من مبالغة. فمثلت المدينة أهم مراكز الاستقبال للأندلسيين لقربها من الأندلس وسهولة اندماج الأندلسيين في المجتمع السبتي. فأضفى الوافدون على المدينة نشاطا علميا وثقافيا. وشكلوا مجالس أمرائها الذين كان بعضهم أندلسيا بدوره كاليانشتي وابن خلاص. واشتغلوا بالحرف اليدوية والتجارة.

ومثّل اليهود الديانة الثانية. ولعلّ الصدام بينهم وبين المسيحيين في إسبانيا إبان حرب الاسترداد وفرض الديانة المسيحية عليهم جعل بعضهم يلجأ إلى المدينة. فعُدّوا من أكبر الجاليات في الغرب الإسلامي. وجعلهم اشتغالهم بالتجارة أداة وصل مع العالم الخارجي لأهمية العنصر اليهودي في الشبكة التجارية العالمية في العصر الوسيط. وكان لبعضهم جدل ديني مع المسلمين. ولم يتفرق شملهم إلا مع الغزو البرتغالي للمدينة سنة 1415.

 

برزت الآن ضرورة إنهاء هذا الوضع الشّاذ المتنافي مع التطور الجاري في العالم نحو التحرّر، مع إقامة علاقة ثنائية بين المغرب وإسبانيا تكون مطهرة من رواسب العقلية الاستعمارية الصليبية القديم

 



وكانت الديانة المسيحية سابقة للإسلام في بلاد المغرب وظلت قائمة حتى القرن السادس للهجرة. ولكن مسيحيي سبتة سريعا ما انصهروا في النسيج الاجتماعي والديني الجديد. فلم يكن للحضور المسيحي فيها أهمية كبيرة. فيكاد يختزل في التّجار الذين يستقرون في المدينة لفترات معلومة ويرتبطون بالفنادق فيحوّلونها إلى أفضية سوسيولوجية، تجسد معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم. 

ومن جهة التراتبية الاجتماعية، يمكن تصنيف سكانها إلى: 

ـ كبار التّجار والحرفيين وهم أساس البرجوازية السبتية، بالنظر إلى قيمة التّجارة الدولية ودورها في مراكمة الثروات.

ـ الشرفاء من أصحاب الامتياز للاعتقاد بانحدارهم من نسل الرسول. وكان لهم دور سياسي مهم. فلمكانتهم الرمزية لم يكن الحكام يجرؤون عليهم. بل كان يجرون عليهم الجرايات الكافية ومرتبات شهرية وكسوة.. وشغلوا مناصب إدارية وتعليمية بالمدينة.

ـ العبيد والعامة وموقعهم أسفل السّلم الاجتماعي. فكانوا يعتبرون عنصرا من عناصر الثروة يزيد أو ينقص بحسب القرصنة والحروب والعتق والبيع.

وكان العلماء والطّلبة والمتصوّفة يمثّلون فئة واسعة لا يمكن تصنيفها في طبقة متجانسة، فتنحصر وحدتها في ارتباطها بالوظائف التّعليمية.
 
5ـ أثر سبتة الإسلامية وبعد؟

يمثل الغزو البرتغالي 1415م بداية ضياع سبتة وفصلها عن انتمائها المغربي. ورغم مرور أكثر من ستة قرون على هذا الحدث التّاريخي الذي يصنفه الباحث بالمأساة تظل آثاره السلبية جاثمة على صدور المغاربة إلى اليوم. فلم تفقد البلاد جزءا من أرضها وتراثها فحسب، وإنما شرفتها التي تطل منها على أوروبا وتحقّق من خلالها مصالحها ونقطة تواصلها المهمة مع العالم الخارجي. فحرمت من امتداد شاطئها المتوسطي.  وتحوّلت المدينة إلى مركز للتهريب وللتجارة غير القانونية التي تكلف المغرب خسائر تتجاوز ثلاث مليارات دولار سنويا. 

ولعلّ المأساة الثانية تتمثل في استسلام المغرب على مدار تاريخه لهذا الواقع لنتيجة لعدم تكافؤ القوى ولتدهور البحرية المغربية والحصار البرتغالي والإسباني ماضيا وتكاتف بلدان الحلف الأطلسي وفرقة العرب والمسلمين حاضرا. فلا يمكن للمملكة اليوم إلا أن تراقب المشهد بألم خاصّة أن أغلبية ساكنة المدينة باتوا من أصحاب الأصول الإسبانية وأنّ وضع "الهوية بين الهويتين المغربية والإسبانية " مريح للسكّان الأصليين بعد حصولهم على الجنسية الإسبانية وحصول المدينة على الحكم الذاتي منذ 1995. 

ينتهي الكتاب بالاستنتاج التّالي: "وقد برزت الآن ضرورة إنهاء هذا الوضع الشّاذ المتنافي مع التطور الجاري في العالم نحو التحرّر، مع إقامة علاقة ثنائية بين المغرب وإسبانيا تكون مطهرة من رواسب العقلية الاستعمارية الصليبية القديمة".


التعليقات (3)