قضايا وآراء

أوروبا وروسيا: الخيارات الصعبة

محمد موسى
1300x600
1300x600

لا يختلف عاقلان على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين قلة من الرؤساء الأقوياء القادرين على اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية في حياة شعوبهم، والشواهد كثيرة منذ حدبات خلت؛ من استلام الحكم إبان الحقبة الياليتسينية (أيام الرئيس يلتسن) مرورا بتطويع الدستور الروسي على مقاساته، وصولا إلى أزمة القرم وما تلاها من أزمات داخلية وخارجية؛ في سوريا وأرمينيا وكازاخستان، وتوظيفات فيروس كوفيد- 19 واستغلالها عبر أوبك بلس، ناهيك عن تجمعات ومنظمات دولية مختلفة كانت دوما مطواعة بيد الدب الروسي وهندساته الدبلوماسية والحربية المتنوعة؛ من النفط إلى الغاز والعسكرة بمفهومها الدبلوماسي.

غير أن الخيارات اليوم في الأزمة الأوكرانية ليست بالأمر الهين، حيث اللعب على حافة الهاوية في عالم خاص وحساس بعد الأزمات الاقتصادية المتلاحقة؛ بفعل الضغوطات الهائلة على الاقتصاد العالمي عبر التضخم من جهة وأزمة الغاز وأسعاره وسلاسل إمداده من جهة أخرى.

لقد حلت الأزمة الأوكرانية ضيفا ثقيلا على كل المتعاطين بشأنها وأطرافها كثر؛ من الأوكرانيين أنفسهم ضمن انقساماتهم الداخلية (والتي لموسكو اليد الطولى فيها) في معسكرين متناوئين ضمن لعبة الشرق والغرب، وصولا إلى أمريكا المترددة في أغلب ملفاتها الخارجية في عهد الرئيس جو بايدن ودبلوماسية بلينكن التي تعمل بطريقة لا تبدو فاعليتها ظاهرة في أكثر من بقعة، ومنها الأزمة الأوكرانية حتما.

أما الناتو فيبدو هو الآخر في حالة من التخبط في رسم شكل العلاقة مع الروس بين التعاون والذي هو حاجة للجميع أو خيارات العقوبات، والتي أثبتت بما لا يقبل الشك أنها قد توجع قليلا ولكنها لن تؤتي عنبا في نهاية المطاف. وتاليا، كيف السبل للتعامل مع روسيا فلاديمير بوتين في لعبة شد الركاب والأصابع في آن؟


وحدها موسكو لا زالت تحاور وتناور في الملف الأوكراني منذ سنوات، غير أن الشهور والأيام الأخيرة تبدو مفصلية للروس والأوكران والحلفاء في آن، فلا أحد يستطيع الخروج من عباءة أحد، والكل على ما يبدو ينشدون الحلول.

إن الناظر في حاجات العالم يدرك أن الكل بحاجة لإبرام صفقات وتسويات دولية كبرى؛ تبدأ من ملف اتفاقيات أساسية بين الولايات المتحدة وروسيا وربما الصين، لتطوير اتفاقية ستارت واحد وستارت اثنان والأزمات النووية المتنقلة على أكثر من صعيد. إن الوصول للتسويات يؤكد أن الرئيس بوتين يصعد ليقطف الثمار في أكثر من موقع عبر الأزمة الأوكرانية المتحورة بوجوه أوروبية مختلفة.

لقد حذّرت نائبة وزير الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان روسيا من أنه يتعين عليها الاختيار بين الدبلوماسية أو المواجهة مع الغرب. في المقابل، قال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو إن الناتو لا يمكنه تحديد مطالب موسكو الأمنية، والتي تشمل عدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف. وهنا جزء من بيت القصيد الروسي.

وقال غروشكو في أعقاب اجتماع مجلس روسيا- الناتو في بروكسل، يوم الأربعاء، إنه "إذا انتقل الناتو إلى سياسة الردع، فهذا يعني أنه ستكون هناك سياسة الردع المضاد من جانبنا"، محذرا من أن التدهور اللاحق للأوضاع قد يؤدي إلى "عواقب وخيمة غير قابلة للتنبؤ" بالنسبة للأمن الأوروبي، علما أن كلا الفريقين يلعب أوراقه الأخيرة قبل الاتفاق.

وأشار غروشكو إلى أن الناتو يتخذ "موقفا انتقائيا" من مبدأ "الأمن غير القابل للتجزئة"، مشددا على أن هذا المبدأ يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مصالح الجميع، وأن "المحاولات لبناء الأمن بدون روسيا وضد روسيا محكوم عليها بالفشل". وهنا قوة الدب الروسي في معادلة صعبة دوليا لا تستطيع الاتفاق الكامل ولا الصدام الكامل.

وعليه، يكتمل بيت القصيد الروسي في لعبة صبر أوروبا وأمريكا (صراع الديوك) على خطورة المجازفة واللعب بأحد أهم الروافد الصناعية والاجتماعية، بفعل الحاجة للتدفئة، وأعني مسارات الأنابيب والغاز المربوطة بالعقوبات الأمريكية على أنابيب نورد ستريم 2، والتي قد تشكل بيضة القبان اليوم في ميزان القوى ولعبة الرحى التفاوضية الدائرة في أكثر من اشتباك وأولها أوكرانيا.

باختصار، بين أصوات أوروبية عاقلة تخشى الوقوع في لعبة الابتزاز الأمريكي، ولا أدل وأوضح من كلام وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الذي قال إنه لن يكون هناك حديث عن السيادة الأوروبية إذا كان سَيُفْهَم من هذا "أننا سنفعل مستقبلا فقط كل شيء حسبما تريده واشنطن"، ورأى الوزير الألماني أن "من المهم أن يكون لدينا في القضايا الاستراتيجية والجيوسياسية المحورية نهج مشترك وأن نكون في نفس الجانب من الميدان".. وبين أصوات تصعد أوروبيا برغبة أمريكية لحماية مصالح أمريكا المتشعبة، ستكون الصورة بمشهد واحد عنوانه المضي بالإجراءات التي اقترحتها روسيا والتي تسمح بالعودة إلى بناء الأمن الأوروبي على أساس مبادئ مشتركة وبشكل يصب في مصلحة الجميع، ما سيساهم ليس في الأمن الروسي لوحده، بل وأمن دول الناتو ذاتها.

وعلى ما يبدو فإن الجميع قد يقعون في ما ترغب به إدارة الرئيس بوتين في لملمة المسائل العالقة تحت عباءة؛ عنوانها في زمن الخيارات الصعبة على الكل أن يخضعوا للغة الاقتصاد والمصالح فقط.


التعليقات (0)