بعيداً عن السخرية المستحقة في كلام عبد الفتاح
السيسي الأخير، فإن قراءة جادة لما قال ستكشف عن أنه مأزوم، وأن هذه الأزمة ليست فقط داخلية، ولكنها خارجية أيضاً، فقد حصل على لقب "الرئيس المعزول" لذلك، رغم أنه لا يزال في موقعه!
لم يكن السيسي في حالة نفسية تسمح له بالحديث، لكنه لا يجيد الصمت، فما أن يرى "الميكروفون" بازغاً حتى يهتف: "هذا ربي.. هذا أكبر"، فيمسك به ويتحدث، فيكشف حديثه عما بداخل النفس، التي يخفي فيها ما الله مبديه، حيث أعاد العزف على الأسطوانة المشروخة وكيف أنه
مستعد لمغادرة موقعه إذا رأى الشعب ذلك، دون أن يضع وسيلة يتم بها إيصال رأي الشعب فيه، وقد أغلق الميادين ومنع المظاهرات بقوة السلاح، فضلاً عن أنه لم يعرض نفسه للاستفتاء أو يدعو لانتخابات رئاسية مبكرة مثلاً!
وسبق له أن هدد من الاقتراب من "الكرسي" بأنه "سيشيل من يقترب منه من على وجه الأرض"، وقد خطف قائد أركان الجيش
المصري السابق من الشارع إلى السجن، لمجرد أن أعلن رغبته في الانتخابات، فضلا عن هذا فإنه يعتقل المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، كما اعتقل العقيد قنصوة وكل جريمته أنه قرر خوض الانتخابات الرئاسية منافساً له، ولا يزالان إلى الآن رهن الاعتقال، كما أنه فرض على الفريق أحمد شفيق شبه إقامة جبرية، لإدراكه أنه منافس جاد، قادر على أن يهزمه في دوائره اللصيقة به!
أعاد العزف على الأسطوانة المشروخة وكيف أنه مستعد لمغادرة موقعه إذا رأى الشعب ذلك، دون أن يضع وسيلة يتم بها إيصال رأي الشعب فيه، وقد أغلق الميادين ومنع المظاهرات بقوة السلاح، فضلاً عن أنه لم يعرض نفسه للاستفتاء أو يدعو لانتخابات رئاسية مبكرة مثلاً!
ومن العبث المناقشة الجادة لهذا الكلام، بخصوص استعداده للرحيل
إذا أراد الشعب، فإنه من الضروري النظر لهذا التصريح في سياقه، حيث كان انعقاد ما يسمى بالمؤتمر العالمي للشباب فرصة للوقوف على أنه "مأزوم" بواحد من تصريحاته الكاشفة والدالة في هذا السياق، فأهان مصر بأنها بلد لا يجد الأكل، وتسول من المنظمات الدولية لسد رمق المصريين الجوعى، وأكد استعداده لإجراء انتخابات رئاسية كل عام إذا وجد من يدفع نفقاتها، وكذلك تصريحه بأنه مستعد للسماح بالمظاهرات ضده إذا وجد من يدفع له 50 مليار جنيه. وهذا التصريح الأخير يأتي في سياقات أخرى، وفي سياق تصريحه القديم بأنه مستعد أن يبيع نفسه إذا وجد من يشتري!
كل هذا الكلام يمكن الرد عليه، لكن من الخطأ التعامل مع النص دون تأويله، لقراءة ما في بطن الشاعر، وإن كانت هذه النصوص ناقصة ومبتورة شأن نصوصه بشكل عام، فلا تستقيم له جملة، ولا تكتمل له عبارة!
عمق الأزمة:
فدلالة ما قال إن لديه أزمة، وأنه هو الذي يعاني العزلة الخارجية، فقد خسر ترامب، صحيح أن الرئيس بايدن خيب الآمال فيه، بتقاعسه عن الانحياز لملف
حقوق الإنسان، لكنه في الوقت نفسه لم يلتق الجنرال، ورفض كل الوساطات في هذا الشأن، وكانت المكالمة الهاتفية الوحيدة هي ليطلب منه الوساطة لدى حركة حماس من أجل الاستجابة لمطلب وقف إطلاق النار. وحتى الإمارات تركته لإقامة علاقة منفردة مع تركيا، وبدت زاهدة فيه وقد ملت من أسلوبه في
التعامل مع الإماراتيين بالنظرة القديمة لأثرياء الخليج، من أنهم "زكائب أموال" لا أكثر، وأن كروشهم محشوة بالمصاري، ولا يحتاجون سوى لفهلوي عربي ليبيع لهم الترام أو العتبة الخضراء!
هذا الكلام يمكن الرد عليه، لكن من الخطأ التعامل مع النص دون تأويله، لقراءة ما في بطن الشاعر، وإن كانت هذه النصوص ناقصة ومبتورة شأن نصوصه بشكل عام، فلا تستقيم له جملة، ولا تكتمل له عبارة!
وكان رده على هذا التجاهل الإماراتي، هو ضربه لرجالها في القاهرة، وليس أولهم
محمد الأمين ولن يكون آخرهم، ليذكر بذلك بتجربة عبد الناصر في ابتزاز الصديق الروسي، بالاعتقال المتكرر للشيوعيين المصريين.
هناك بعد آخر في ضرب الحزب الإماراتي، لأنهم الصديق الذي هو أدرى بالمضرة، والذي أوصى الشاعر بالحذر منهم ألف مرة مقابل الحذر من الصديق مرة واحدة! وعندما تقرر أبو ظبي اللعب ضده، فلن تستعين بالإخوان مثلاً، وإنما سيكون هذا عبر دائرته اللصيقة، التي يظهر أنها تشعر بأن استمراره في الحكم خطر عليها وعلى مصالحها، وهو يحكم وحده، ومصيرهم في يده، على النحو الذي لم تعرفه مصر في أي مرحلة من مراحل الحكم
الاستبدادي، حتى في مرحلة عبد الناصر التي نطلق عليها مرحلة حكم الرجل الواحد، فقد كانت هناك دولة وشخصيات مهمة صاحبة القرار في مواقعها، كما أن هناك حزبا كبيرا من العامة والفقراء مستعد للذود عن هذه التجربة، فمن يستفيد من هذا الحكم لدرجة الدفاع عنه وإلى متى، وهو نظام يملك جينات فنائه بداخله؟!
لا تقل لي الجيش، لأن الهيئة الهندسية ليست هي الجيش المصري، وكامل الوزير ليس كل الجنرالات والضباط، وإذا كان هناك من استفاد من حكمه، فإنه يدرك الخسارة إذا انتهى حكم السيسي بالثورة أو بالوفاة، وليس هناك بديل يطرح اسمه في الأفق!
غياب نائب الرئيس:
لقد كانت دولة مبارك مطمئنة له، لأنها ترى البديل في توريث الحكم، بما يعني استمرار وجودها في المشهد واستمرار مصالحها، لكن حتى النص الدستوري الذي وضع في التعديلات الأخيرة عن نائب لرئيس الجمهورية أو أكثر لم يتم تفعيله رغم الاحتياطات الواردة في النص؛ من أن النائب لا يجوز له الترشح للمنصب، وهو ما أدركته منذ البداية وتوقعت أنه سيتلعثم كثيراً قبل أن يختار نائباً له، وأنه إذا اضطر لاختيار النائب فلن يختاره من العسكريين، تماماً كما لن يختار منهم رئيس حكومة، وذلك عندما كان البعض يرشح اللواء محمد العصار لأي من الموقعين، وقد قبلت التحدي في هذا الصدد، لأننا عُلمنا منطق السيسي!
فمع النص الذي يجعل من النائب ليس صاحب مصلحة في الانقلاب عليه، فإنه يتخوف من وجوده، فربما يجد من الضروري أن ينهي هذه المرحلة لصالح البلد أو بضغوط شعبية أو خارجية، حتى وإن كان ما سيجنيه هو كتابة اسمه بوضوح في سجلات التاريخ، كما حدث مع الجنرال السوداني سوار الذهب!
عدم اختيار السيسي لنائب الآن أمر كاشف عن عدم شعوره بالاستقرار، زد على هذا قراره بعدم بقاء أي قيادة بالجيش في موقعها لأكثر من عامين، وإذا كان مبارك الذي تعرض لأكثر من محاولة اغتيال، وكان الهاجس الأمني عنده مرتفعاً، كان يجد أمانه في الجيش، فإن صاحبهم قلق من الجميع، وتأتي قراراته بالتخلص من دائرته المحيطة
وعدم اختيار السيسي لنائب الآن أمر كاشف عن عدم شعوره بالاستقرار، زد على هذا قراره بعدم بقاء أي قيادة بالجيش في موقعها لأكثر من عامين، وإذا كان مبارك الذي تعرض لأكثر من محاولة اغتيال، وكان الهاجس الأمني عنده مرتفعاً، كان يجد أمانه في الجيش، فإن صاحبهم قلق من الجميع، وتأتي قراراته بالتخلص من دائرته المحيطة، بداية من وزير الدفاع السابق، إلى رئيس الأركان، إلى وزير الداخلية شريكه في الانقلاب، لتجعل من عدم الاطمئنان له هو سيد الموقف. والمتابع لسنة حكم الرئيس محمد مرسي، فإنه يمكن أن يلحظ بسهولة أن جزءا من قلق السيسي، والذي ربما دفعه للاستقواء بالقوى المدنية، هو ما رشح لأكثر من مرة عن تنامي اتجاه داخل مكتب الإرشاد لضرورة عزله!
وإذا كان قد قلق لهذا فقطع عليهم الطريق، فمن الطبيعي أن يقلق المحيطون به وقد مارس التصفية بشكل عملي. ومن عادة هؤلاء الاستكانة في وقت قوة صاحب القرار، لكن عندما تهتز مكانته، فإن التململ يبدو طبيعياً، وما تفيد به المصادر أن هذا التململ سمع به من خارج هذه الدائرة، فالجميع لا يعرفون متى يغدر بهم السيسي!
لقد فتش في دفاتره القديمة، واستدعى ياسر رزق بعد إحالته للاستيداع، وإدراكه أنه عندما أطاح به كان هذا انتصاراً لمنافسيه وهم يتبعون دوائر أمنية أخرى، لكنهم في الحقيقة ليسوا رجاله هو، ويقلقه تعدد الولاءات، فعند نشوب أزمة يعلم كل أناس مشربهم!
الدجل والسياسة:
ومع كل اقتراب من ذكرى ثورة يناير، فإن السيسي يشعر بالقلق، لكنه هذه المرة هو لا يقلق من يناير فقط، فقلقه يشمل العام كله، حتى يجدر القول إن عام 2022 هو "عام القلق". وبعيداً عن رأينا الخاص بالسيدة بسنت ومن أنها ليست عالمة بالفلك، لكنها تمارس في بداية كل عام أعمال النصب مع عمرو أديب في برنامجه، إلا أن جماعة الحكم في مصر يتعاملون معها بجدية، وقد قالت إن هذا العام هو عام قلاقل. ومن يطلع على علاقة الدجل والعرافين بالسياسة وأهل الحكم في مصر ومنذ حكم الرئيس جمال عبد الناصر وإلى الآن، سيقف على أهمية ما أقول، وقد كتب الأستاذ هيكل جانباً من هذه العلاقة التي ربطت رموز الدولة المصرية في عهد ناصر بمن يقرأ الطالع ويضرب الودع، والذي كان أستاذاً جامعياً بالمناسبة!
مع كل اقتراب من ذكرى ثورة يناير، فإن السيسي يشعر بالقلق، لكنه هذه المرة هو لا يقلق من يناير فقط، فقلقه يشمل العام كله، حتى يجدر القول إن عام 2022 هو "عام القلق"
وهذا ملف متخم بالمعلومات، لمن اقترب من السياسة في مصر من باب علم الأنثروبولوجيا حيث دراسة الحالة بحالتها، وليس من باب علم السياسة، عندما يكون التعالي هو سيد الموقف، بما لا يسمح برؤية الأمور على طبيعتها.
لقد حدث تطور لافت، وهو انتفاضة العاملين في ماسبيرو، داخل المبنى العريق، صحيح أن لهم مطالب مشروعة، وأن ما دفعهم لذلك هو "الشديد القوي" و"الحاجة الملحة"، لكن الظلم يملأ مصر، ويظل رد الفعل هو الغريب في مبنى ينتشر الأمن في كل جنباته. وقد جعلت هذه الانتفاضة الأجهزة الأمنية في "حيص بيص"؛ إنها تخشى من أي تعامل خشن، قد يكون رد الفعل عليه هو اتساع دائرة الغضب، أو تضييق على المحتجين فيخرجون للشارع، وما يدركه الجميع أن أي خروج إليه قد يتحول أمره إلى ثورة!
وأزمة أهل الحكم أنهم لا يستطيعون تلبية مطالب المحتجين، ليس فقط لأن النية منعقدة على التخلص من العاملين في المبنى كلية، ولكن لأن الاستجابة تعني ضعف السلطة، مما سيغري فئات أخرى تم الجور على حقوقها للتظاهر، مما قد يؤدي إلى اتساع الرتق على الراقع!
إنه عام القلق، الذي قد يتحول إلى عام الغضب!
twitter.com/selimazouz1