كتاب عربي 21

عشوائية حسابات البرهان

جعفر عباس
1300x600
1300x600

تكتك وخطط عبد الفتاح البرهان طويلا للانقلاب الذي نفذه في 25 تشرين أول/ أكتوبر المنصرم والذي صار بموجبه الحاكم العسكري للسودان، واضعا كل خيوط السلطة في يده، وما قبل ذلك التاريخ كان هناك ومنذ آب/ أغسطس 2019 مجلس وزراء يتألف في غالبيته من المدنيين، بينما كان البرهان وأربعة جنرالات اختارهم هو بعناية يشغلون مع خمسة مدنيين مقاعد في مجلس السيادة الذي يمثل رئاسة الدولة، ولكن بدون سلطات تنفيذية.

عمل البرهان ومنذ تشكيل تلك الحكومة على إجهاض جهودها لإنجاز أمور أساسية كان منصوصا عليها في المواثيق التي تشكلت هياكل الحكم بموجبها، فلأن أمورا كثيرة كانت تتطلب الحسم والبت في اجتماعات مشتركة بين مجلسي الوزراء والسيادة، فقد عمد البرهان ورهطه إلى التنصل من تلك الاجتماعات، ثم، وبدون أي مسوغ قانوني او دستوري استولى البرهان ومعاونوه على ملفات الأمن والسلام والعلاقات الخارجية، وكان أن وعدوا إسرائيل بتطبيع العلاقات معها، وكان أن استقطبوا الحركات المسلحة التي ظلت متمردة على الحكومة المركزية لزهاء ربع قرن إلى جانبهم بموجب اتفاق سلام "أي كلام" مضى على إبرامه عام وبعض العام، ولم يتحقق منه شيء سوى منح قادة تلك الحركات مقاعد وثيرة في مجلسي السيادة والوزراء، وقد طابت تلك المقاعد لأولئك القادة وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ضالعين في انقلاب البرهان الأخير.
 
ولإبعاد شبه العسكرة الكاملة لانقلابه عمد البرهان فيما قبل 25 تشرين أول/ أكتوبر إلى استدراج شرائح من صنف "شعب كل حكومة"، مثل رجالات الإدارة الأهلية وهم زعماء القبائل، ومشايخ الطرق الصوفية إلى الخندق المعادي لمجلس الوزراء المدني، وهرع لوردات الحرب إلى ذلك الخندق يحدوهم الأمل في المزيد من "الكراسي" والامتيازات، ولأن الجو العام في السودان ظل منذ بدء الثورة الشعبية التي أسفرت عن إسقاط حكومة عمر البشير مشحونا بشعارات وروح تلك الثورة، فقد لجأ البرهان والذين ارتضوا التواطؤ معه في مخطط سرقة السلطة، إلى نفس شعارات وممارسات الحراك الشعبي الذي لم ينقطع قط، وظل يطالب بتنزيل شعارات الثورة إلى الأرض.

وعلى غرار الاعتصام الذي تم تنفيذه أمام القيادة العامة للجيش في سياق الثورة الشعبية التي نشدت إسقاط حكم البشير ثم إقامة نظام حكم مدني، قام البراهنة (وهكذا صار المتواطئون مع البرهان يسمون في السودان) بتنظيم اعتصام في ساحة القصر الجمهوري، وبتعديل طفيف في مفردات شعارات الثورة نادوا بإسقاط الحكومة المدنية، ووجد البرهان في زعيم قبلي في شرق السودان حليفا يوثق به، وتولى الرجل قطع الطريق الدولي الرابط بين ميناء السودان البحري الوحيد وبقية أجزاء القطر وخنق الاقتصاد السوداني بشل حركة الصادر والوارد لزهاء شهر ونصف الشهر.

 

لإبعاد شبه العسكرة الكاملة لانقلابه عمد البرهان فيما قبل 25 تشرين أول/ أكتوبر إلى استدراج شرائح من صنف "شعب كل حكومة"، مثل رجالات الإدارة الأهلية وهم زعماء القبائل، ومشايخ الطرق الصوفية إلى الخندق المعادي لمجلس الوزراء المدني، وهرع لوردات الحرب إلى ذلك الخندق يحدوهم الأمل في المزيد من "الكراسي" والامتيازات،

 



ونفذ البرهان الانقلاب وهو مطمئن إلى أنه أعد له ما استطاع من عدة تضمن نجاحه، ومنذ يومها صار واضحا أنه لم يكن يحسب حساب "اليوم التالي"، أي لم يسأل نفسه: ثم ماذا بعد؟ وهكذا جاء انقلابه خديجا ناقص التكوين، فلا هو نجح في العثور على رئيس وزراء أو شاغلي الحقائب الوزارية يصلحون ديكورا مدنيا للحكم، ولا هو قادر على الإعلان عن الغاية من الانقلاب، رغم أنه لا يفتأ يزعم أنه يهدف لتصحيح مسار الثورة، وهو ما يكذبه استهداف رموز وقيادات الثورة بالقتل والاعتقال والتشريد، لأن الشارع المناهض للبرهان وانقلابه ظل وما زال في حالة غليان شديد.

ثم جاءت اللطمة للبرهان من شمال السودان، عندما شاد أهله التروس وقطعوا الطريق الرابط بين منطقتهم وأواسط السودان، والذي عبره تتم حركة الصادر والوارد من وإلى مصر، فقد أوقع ذلك البرهان في حرج بالغ مع حليفه المصري ونال من هيبة حكومته العسكرية، فطالما بارك قطع طريق الشرق فما حجته لاستنكار تتريس طريق الشمال؟ ولكن تنفيذ انقلاب عسكري بشعارات مخادعة يتطلب سماكة الجلد، وهكذا لم يتردد البرهان خلال الأيام القليلة الماضية من إيفاد قوات مدججة بالسلاح لفض تلك التروس بالقوة، وهكذا بدأت لعبة القط والفأر: يفك العسكر التروس هنا ويتحركون الى منطقة أخرى، فتظهر تروس جديدة من أمامهم ومن خلفهم.

 

قبل أيام قليلة وصل وفد إسرائيلي رفيع إلى الخرطوم، واتضح أنه في زيارة عائلية لآل دقلو، وتحديدا لتقديم المشورة لهم في أمر مشروع زراعي عملاق يتألف من ربع مليون دونم/ فدان، وفي الثاني من شباط/ فبراير الجاري وصل وفد من دبلوماسيين وعسكريين سودانيين إلى إسرائيل، لـ "بحث سبل التعاون الأمني بين البلدين".

 



ومن الأمور التي لم يحسب البرهان حسابها جيدا هو أن الانقلاب وعدم وجود كيان مدني قوي في المشهد أعطى نائب البرهان، محمد حمدان دقلو (حميدتي) وأخوه عبد الرحيم وكلاهما "مدني" يحمل رتبة عسكرية رفيعة، الفرصة للسعي علنا لتوسيع قاعدة امبراطورية آل دقلو، التي لم تعد تكتفي بحيازتها لذراع عسكري ومالي واقتصادي مواز لذراع الدولة، بل صارت تعمل على الفوز بعلاقات خارجية خاصة بها، وتمددت في غرب أفريقيا بتحالفات مع حكومتي النيجر وتشاد، ولم تعد قانعة بحواضنها الإقليمية فشرعت من ثم في خطف ملف العلاقات مع إسرائيل من البرهان نفسه، وجعلها علاقة بين دولة وعائلة طالما تعذر إشهار تلك العلاقة علنا بين السودان وإسرائيل، وقبل أيام قليلة وصل وفد إسرائيلي رفيع إلى الخرطوم، واتضح أنه في زيارة عائلية لآل دقلو، وتحديدا لتقديم المشورة لهم في أمر مشروع زراعي عملاق يتألف من ربع مليون دونم/ فدان، وفي الثاني من شباط/ فبراير الجاري وصل وفد من دبلوماسيين وعسكريين سودانيين إلى إسرائيل، لـ "بحث سبل التعاون الأمني بين البلدين".

ومن عجب أن البرهان وآل دقلو ومن يسايرونهم يتكتمون على تبادل الزيارات بينهم وبين قادة إسرائيل، وهم في هذا كالعريان الذي يغطي ذقنه، ولكن مؤدّى كل ذلك هو أن البرهان بات يدرك أن كفلاءه الإقليميين لن يدعموه علنا وأن انقلابه لا يحظى بسند خارجي إلا من إسرائيل، ولكنه لا يجد في نفسه الشجاعة لجعل علاقته مع إسرائيل علنية لأنها مرفوضة شعبيا، بل إن هرولة إسرائيل لاحتضان الانقلاب جعل "التطبيعيين" السودانيين يصححون مواقفهم ويدركون أن إسرائيل غير معنية باكتساب وُد الشعوب، بل تعمل فقط على تدجين الحكام العرب وتفضل منهم ذلك الصنف الذي لا يقيم وزنا لـ"الرأي العام".


التعليقات (1)
حمدى مرجان
السبت، 12-02-2022 02:48 م
"الصمغ العربي " سره باتع ، يضعه الحاكم العربي علي كرسي السلطة ، فلا ينتزعه منه الا " عزرائيل " ، فما بالك بمن عنده مزارعه ، وانتاجه يغطي العالم ، لم نجد حاكم عربي يفكر في حقوق شعب وحريته او في تداول السلطة وانتخاباتها او في اقامة دولة ومدنيتها ، فهو يقوم بالانقلاب للحصول عليها وباى ثمن فالشعب هو الذى سبدفع من دمه وعرقه ، ثم يقوم بسداد ديونه لمن اوصلوه اليها ، بالحبس والتنكيل للداخلي ، وحماية الامن والحدود والبوابات والخنوع والخضوع للخارجي