يصعب على أية دولة كبرى أن تقوم بغزو من دون حد أدنى من حسابات الخسائر والمكاسب، وقد تفلح أو تخفق
هذه الحسابات. دروس التاريخ القريب تخبرنا أن الإمبراطوريات الكبرى كثيرا ما ضلت الطريق مدفوعة بغرور القوة، فتورطت الولايات المتحدة في غزو العراق وأفغانستان بعد أن تورط قبلها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أيضا، وخرج كل من منهما يجر أذيال الخيبة. غير أن هذه الأمثلة لا تنطبق على حالة الأزمة الأوكرانية الروسية الحالية.
في هذه الأزمة لدينا ثلاثة عناصر مهمة تختلف عن سوابق الغزو الفاشل في العقود الأخيرة؛ أولها أن أوكرانيا كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي قبل بضعة عقود، ولا تزال الروابط الثقافية والاجتماعية والسياسية ممتدة بين موسكو وكييف، على الأقل على صعيد شرق البلاد كما سنوضح بعد قليل. وثانيا أن البلاد جزء من صراع دبلوماسي وسياسي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وسجال حول الضمانات الأمريكية بعدم توسع حلف
الناتو شرقا وحتى يومنا هذا. وثالثا أن هناك سوابق جيوسياسية وعسكرية منذ أكثر من ثماني سنوات حين استولت
روسيا بالفعل على شبه جزيرة القرم، وتدعم الانفصاليين في إقليم دونباس
شرق البلاد.
دروس التاريخ القريب تخبرنا أن الإمبراطوريات الكبرى كثيرا ما ضلت الطريق مدفوعة بغرور القوة، فتورطت الولايات المتحدة في غزو العراق وأفغانستان بعد أن تورط قبلها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أيضا، وخرج كل من منهما يجر أذيال الخيبة. غير أن هذه الأمثلة لا تنطبق على حالة الأزمة الأوكرانية الروسية الحالية
كل هذه العوامل تعني أن موسكو حاضرة في قلب أوكرانيا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ولم تغادر بل ازداد حضورها قوة مع الوقت، خاصة إذا عرفنا أن النخبة السياسية الحاكمة تتأرجح بين الموالين لموسكو والموالين للغرب. وهي تعكس انقساما هوياتيا وجغرافيا ربما تحاول كييف أن تداريه بالمظاهرات الحاشدة عن وحدة البلاد. وهي سياسية بدأت منذ سنوات في إقرار الهوية الأوكرانية في مقابل الهوية الروسية، كمحاولة نشر اللغة الأوكرانية في مقابل اللغة الروسية السائدة والتمايز عن الثقافة الروسية. لكن على أرض الواقع فإن البلاد شبه منقسمة ثقافيا (ليس بالضرورة سياسيا) بين شرق أقرب لروسيا وفي القلب منه مدينة خاركيف، العاصمة القديمة للبلاد حتى الثلاثينيات من القرن الماضي، وثاني أكبر مدينة من حيث المساحة وعدد السكان والتي تتحدث الروسية، وبين غرب أقرب لدول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه مدينة لفيف، المركز الثقافي والاقتصادي المهم في البلاد والتي تتحدث الأوكرانية.
يشق نهر دنبرو أوكرانيا إلى نصفين؛ ضفته الشرقية تحمل رائحة كل ما هو روسي، وضفته الغربية تحمل رائحة ما هو أوروبي غربي، تبقى وحدها العاصمة كييف في منتصف النهر يقسمها إلى ضفتين. وتشير كثير من التوقعات إلى أن أحد خيارات الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا أن يشمل القطاع الشرقي للبلاد من دون عبور القوات الروسية لنهر دنبرو. فمن ناحية تستغل روسيا الثقافة الروسية الحاضرة لدى السكان وتقلل من احتمال اندلاع مقاومة شعبية، ومن ناحية أخرى لا تستفز الاتحاد الأوروبي ودول حلف الناتو بأن تقترب بشكل متلاصق من بولندا، لتخلق بذلك حاجزا طبيعيا بينها وبينهم يتمثل في القسم الغربي من أوكرانيا.
هل يمكن أن يكرر التاريخ نفسه وتدفع أوكرانيا ثمن الصراع الدولي الحالي، وتنقسم كييف بين روسيا والغرب كما انقسمت برلين؟
يعزز من هذا الخيار حديث الرئيس الأوكراني عن احتمال غزو مدينة خاركيف، فضلا عن نقل خمس دول غربية لدبلوماسييها من العاصمة كييف
إلى مدينة لفيف، والحديث عن احتمال أن تكون هذه الأخيرة هي العاصمة البديلة للبلاد في حال تعرضت العاصمة كييف للغزو. يذكرنا هذا بما حدث في أعقاب
الحرب العالمية الثانية لألمانيا التي كانت عاصمتها برلين، فبعد أن تم تقسيم المدينة بين ألمانيا الشرقية الموالية للمعسكر الشرقي وألمانيا الغربية الموالية للمعسكر الغربي، تم نقل عاصمة ألمانيا الغربية إلى مدينة بون. وقد عادت برلين عاصمة لدولة ألمانيا الموحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين عام 1989.
هل يمكن أن يكرر التاريخ نفسه وتدفع أوكرانيا ثمن الصراع الدولي الحالي، وتنقسم كييف بين روسيا والغرب كما انقسمت برلين؟ الأيام وربما الساعات القادمة ستحمل الإجابة.
twitter.com/hanybeshr