انعقدت ما سُميت
بقمّة النّقَبْ في
فلسطين المحتلة، بحضور وزراء خارجية أربع دول عربية، في ضيافة وزير خارجية الاحتلال
الإسرائيلي يائير لابيد، وبمشاركة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في مرحلة دقيقة تعيش فيها المنطقة العربية على وقع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وإرهاصات توقيع الاتفاق النووي الإيراني، واستعداد الاحتلال الإسرائيلي لاستقبال موجة من النضال الفلسطيني على أعتاب شهر رمضان المبارك.
دول ما تُسمى باتفاقيات أبراهام، بالإضافة إلى مصر كامب ديفيد، جاءت إلى النقب، في مشهد غير متوقّع وغير متخيّل، يحدوها البحث عن مصالحها فيما تعتقد، بعيداً عن أدبيات القضية الفلسطينية القومية والدينية، ظانّين بإسرائيل خيراً باعتبارها عامود خيمة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
فمصر البوابة التاريخية للقضية الفلسطينية، وجسر العلاقة مع الكيان الصهيوني منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، أضحت طرفاً مهماً وليس حصرياً بعد
دخول الإمارات على خط
التطبيع بقوة، ما دفعها ولو استدراكاً للّحاق بركب المتقاطرين إلى النقب، حتى تطّلع وتضطّلع بدورٍ ما فيما يمكن التوافق حوله برعاية أمريكية، ناهيك عن حماية مصالحها الاقتصادية في المنحة الأمريكية، والمشاريع الإماراتية الخليجية، إضافة إلى أهمية التنسيق الأمني مع الكيان الإسرائيلي في سيناء، وفيما يتعلق بقطاع غزة المحاصر.
دول ما تُسمى باتفاقيات أبراهام، بالإضافة إلى مصر كامب ديفيد، جاءت إلى النقب، في مشهد غير متوقّع وغير متخيّل، يحدوها البحث عن مصالحها فيما تعتقد، بعيداً عن أدبيات القضية الفلسطينية القومية والدينية، ظانّين بإسرائيل خيراً باعتبارها عامود خيمة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة
في ذات السياق، تسعى البحرين والإمارات للاستفادة من مشاريع وشراكات اقتصادية وأمنية مع الكيان الصهيوني لما يتمتّع به من ميزات تنافسية، إضافة إلى تطلع أبو ظبي إلى توسيع دورها الإقليمي عبر تل أبيب؛ بوابة العلاقة مع واشنطن.
أما
المملكة المغربية، فهي تتمتّع بعلاقات تجارية وسياسية قديمة تعمل على توسيعها وتعزيزها، ناهيك عن حاجتها لإسرائيل بالشراكة مع الولايات المتحدة في تعزيز مغربية الصحراء المتنازع عليها مع جبهة "البوليساريو" المدعومة من الجزائر، المنافس التقليدي للمغرب، والتي ترفض بدورها التطبيع مع الاحتلال، وتواجهه في أفريقيا برفضها مؤخراً انضمام الكيان الصهيوني إلى الاتحاد الأفريقي كعضو مراقب.
الأهم من كل ذلك؛ هي قناعة تلك الدول بأن التحالف مع الكيان الإسرائيلي وإدماجه في المنطقة العربية، بصفته قاعدة أمريكية متقدمة، يمكن أن يُشكّل لها ضمانة وقوّة في مواجهة إيران، التي تستعد للخروج من سوار الحصار الأمريكي في حال تم توقيع الاتفاق النووي معها، وذلك بتشكيل تحالف إقليمي (
ناتو شرق أوسطي) بقيادة "إسرائيل" التي تقوم بدور الوكيل للولايات المتحدة المنشغلة بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ومواجهة الصعود الروسي الصيني عالمياً.
أمام هذا المشهد السُريالي، الذي لم يكن في أحلام الآباء المؤسسين للمشروع الصهيوني، تقف الرسمية الفلسطينية المتجسّدة في السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس وفريق أوسلو شاهداً ضعيفاً هزيلاً، لا يُنظر إليه إلا بِقدْر الدور المرسوم له من خلال التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال، مقابل جرعات من الدولارات لديمومة الدور الوظيفي للسلطة
أمام هذا المشهد السُريالي، الذي لم يكن في أحلام الآباء المؤسسين للمشروع الصهيوني، تقف الرسمية الفلسطينية المتجسّدة في السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس وفريق أوسلو شاهداً ضعيفاً هزيلاً، لا يُنظر إليه إلا بِقدْر الدور المرسوم له من خلال التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال، مقابل جرعات من الدولارات لديمومة الدور الوظيفي للسلطة والقائمين عليها. وهو الدور الذي يُفسّر جرأة المطبّعين العرب بتجاوزهم القضية والقيادة الفلسطينية واستحقاقات المبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002) التي شكّلت سقفاً للموقف الرسمي العربي بقيادة السعودية، ورسمت استحقاقات العلاقة المفترضة مع الاحتلال ومقتضياتها.
ما جرى في النقب ولو على مستوى الصورة، شكّل نكسة جديدة للقضية الفلسطينية التي قزّمتها واختزلتها قيادة فريق أوسلو في تنسيق أمني مدفوع الأجر. ولكن في ذات الوقت، وفي الاتجاه الآخر، لا بد من القول إن هذا المشهد المؤلم سيُشكّل باعثاً للقضية الفلسطينية من جديد، عبر استعادة المخيال الوطني الفلسطيني لأصل الحكاية والعلاقة مع الاحتلال، المتجسّدة بالثورة، بعد أن فشلت كل الرهانات على سلام مزعوم مع احتلال إحلالي، لا يفهم إلا لغة القوة، وبعد أن انحدرت مواقف العديد من الأنظمة العربية بدفعها فاتورة مصالحها الآنية على حساب مصالح شعوب المنطقة ومن حساب القضية الفلسطينية والقدس.
زمام المبادرة أصبح في يد الشعب الفلسطيني، الذي سيقرر مصيره بيده، فهل يقلب الطاولة على اتفاقيات أوسلو، واتفاقيات أبراهام، ويعيد خلط الأوراق من جديد
لم يعد أمام الفلسطيني اليوم إلا السير بخطى مسرعة نحو المقاومة الشاملة، حماية لذاته، وهويته، ولاسترداد حقوقه الوطنية، وهو ما عبّر عنه آخر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية برام الله، في آذار/ مارس 2022، بأن الأغلبية الفلسطينية تؤيّد الانتفاضة المسلحة، الأمر الذي يستشعره الاحتلال، ويسعى لتفاديه، بتقديم المزيد من الدعم المادي للسلطة الفلسطينية، والسماح لعشرات الآلاف من الفلسطينيين للعمل في فلسطين المحتلة عام 1948، إضافة لوقفه تنفيذ قرارات قضائية احتلالية بهدم بيوت في القدس، وضغطه على الحركات الدينية والمتطرفين الصهاينة للحيلولة دون قيامهم بأنشطة مستفزّة في المسجد الأقصى، علاوة على قيامه باتصالات مكثّفة مع مصر والأردن في مسعى لمنع انفجار فتيل مواجهات متوقّعة في شهر رمضان المبارك الذي يحمل معه نفحات الإيمان بالثورة والمقاومة، ويحمل معه ذكرى أحداث حي الشيخ جرّاح، وباب العامود، ومعركة سيف القدس.
زمام المبادرة أصبح في يد الشعب الفلسطيني، الذي سيقرر مصيره بيده، فهل يقلب الطاولة على اتفاقيات أوسلو، واتفاقيات أبراهام، ويعيد خلط الأوراق من جديد في شوارع القدس ومدن الضفة الغربية، وغزة، واللد والرملة؟ هذا ما يخشاه الاحتلال وأجهزته الأمنية صاحبة قرون الاستشعار الطويلة، خاصة مع تصاعد وتيرة أعمال المقاومة بشكل مطّرد في الضفة الغربية وداخل فلسطين المحتلة عام 1948، ما يشير بوضوح إلى عودة حيوية الفعل والمبادرة لدى الفلسطيني، تأكيداً على عدم استسلامه لظلام الواقع، فهو صاحب الأرض، وصاحب الشرعية، وصاحب الكلمة الفصل. فكل لقاءات التطبيع ومحاولات التسويق للكيان الصهيوني في المنطقة، لن توفّر له الحماية والأمن على أرض الجبّارين، الذين يعشقون ترابها وزيتونها، ويستعدّون لحمل مشاعل النضال في شوارع القدس العتيقة، وليالي رمضان المجيدة.