قضايا وآراء

معركة الدولار والنظام العالمي الجديد

عامر جلول
1300x600
1300x600
مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية التي تحمل جذوراً سياسية واقتصادية وتاريخية ودينية أيضاً، كل الأنظار والتحليلات تتكلم عن نظام عالمي جديد يلوح في الأفق، وكسر الأحادية الأمريكية، وقد تكون بداية حرب عالمية ثالثة. ولكن مما لا شك فيه أن شكل الحروب التقليدية قد تغيّر تماماً، فلن تُستخدم فيها الدبابات والصواريخ بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولكن الحرب سوف تكون حربا لتغيير النظام الاقتصادي والنقدي الذي يتحكم بالعالم على جميع الأصعدة، منها التجارية والمالية وغيرها. فهذه أصبحت الأولوية للدول التي تعاني من آثار العقوبات التي يفرضها شرطي العالم، أي الولايات المتحدة الأمريكية.

واليوم تسعى روسيا للالتفاف على العقوبات من خلال بيع النفط والغاز لغير الأصدقاء بالروبل الروسي، أي العملة المحلية، مما يعني زيادة الطلب على العملة الوطنية، والانتقال بالعلاقة مع الشريك الصيني إلى مستوى الحليف الاستراتيجي على كافة الأصعدة. ولكن السؤال هل هذا التحالف قادر على أن يكسر هيبة الدولار؟ وهل سوف نشهد انهيار الإمبراطورية الأمريكية واللجوء إلى عملة جديدة أو العودة إلى الذهب كملاذٍ آمن؟

لمحة تاريخية:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على الفاشية المنتشرة آنذاك بقيادة الحزب النازي، كان المنتصر الأكبر في تلك الحرب هي الولايات المتحدة الأمريكية على كافة الأصعدة، فهي الدولة الوحيدة التي لم يمس أراضيها القصف والدمار. فلقد كانت مدنها وترسانتها العسكرية والاقتصادية ومصانعها في مأمن من القصف والقتال، مما عزز إمكانيتها في فرض شروطها ورؤيتها الرأسمالية على العالم الذي سوف يولد قريباً بعد انتهاء الحرب نهائياً.

وبعد تولي الرئيس هاري ترومان، تم عقد مؤتمر في فرنسيسكو من أجل إنشاء منظمة عالمية تفرض السلام في عالم يسبح في الحروب وتأسيس مؤسسة مالية عالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسة التجارة العالمية. كل تلك المؤسسات تحت الرعاية الأمريكية، والسبب أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الأقوى اقتصادياً وهي تملك النسبة الأكبر من الذهب العالمي، وكانت قوة إنتاجية ومصنع العالم بعد تدمير كل مصانع أوروبا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا.

كل تلك الأسباب عززت من الهمينة الأمريكية التي تتطلع إلى نظامٍ مالي جديد عنوانه سيطرة الدولار كمرجع نقدي في التعاملات المالية والتجارية، فجاء مؤتمر "بريتون وودز" ليفرض الدولار الأمريكي كعملة عالمية يتم تداولها في كل النشاطات الاقتصادية والنقدية والتجارية.

اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي جراء الضربات المتكررة من النظام الرأسمالي الغربي على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وإخفاق تطبيق نظرية بريسترويكا، استطاعت أمريكا أن تفرض سيطرتها السياسية والعسكرية، ولكن الأهم هي سيطرتها النقدية، وهي ميزة عززت من قوتها وقدرتها على هزيمة العدو دون إطلاق أي رصاصة عليه، إنما من خلال إجراءات مالية وتجارية تفرضها الولايات المتحدة.

ولكن الصعود الصيني وتحولها إلى مصنع عالمي، حيث يتم تصنيع كل أنواع الصناعات الثقيلة والخفيفة، فالكثير من الشركات الأمريكية تقيم في الصين وتقوم بتصنيع منتوجاتها، مثل شركة أبل، وذلك لعدة أسباب منها رخص العملة واليد الصينية مقارنة مع الأمريكية.

صدام العملات:

قوة الولايات المتحدة الأمريكية ليست بجيوشها الجرارة والتكنولوجيا العسكرية والمدنية فحسب، وذلك لأن هناك نوعا من المنافسة والتوزان النسبي على الصعيد العسكري أو الأسلحة النووية (مثل روسيا والصين وغيرهما)، إنما بقوة عملتها.

هناك كلامٌ في الخفاء وأصبح ظاهراً في الساحات الدولية؛ عن حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ واليوم بدأت تتحول إلى حربٍ ساخنة ولكنها حربٌ اقتصادية وحرب عملات. ولكن هل الصين مستعدة إلى كسر تلك الهيمنة؟ لا شك أن الدولار هو سلاحٌ في خاصرة الصين وروسيا، ولكن واقعياً ومنطقياً لا تستطيع الصين اليوم أن تدخل في معركة لكسر هيمنة الدولار، وذلك لعدة أسباب:

الأول، أن الصين تمتلك أكبر احتياطي من الدولار الأمريكي، كما أنها أكبر دولة دائنة للولايات المتحدة الأمريكي، وهبوط الدولار يعني خسارة قيمة ديونها الخارجية وقيمة احتياطها النقدي.

أما السبب الثاني فهو أن الصين لا زالت تحتاج إلى التكنولوجيا الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فهي غير قادرة في الوقت الراهن على التخلي عن تلك التكنولوجيا، كما أن أمريكا هي سوق كبير للمنتوجات الصينية.

ثالثاً أن المنتوجات الصينية أرخص من الأمريكية بسبب غلاء العملة، فإذا أصبحت العملة الصينية أغلى من الدولار، سوف يتوجه العالم للاستيراد من أمريكا بدلاً من الصين.

ولكن تلك الأسباب لا تعني أن احتمالية كسر الهيمنة الدولارية غير واردة في قاموس الدول، فاليوم نرى ارتفاعا جنونيا في أسعار أونصة الذهب، وذلك لأن الذهب هو الملاذ الأفضل في وقت الحروب، والصين وروسيا تملكان مخزونا ضخما من الذهب، كما أن هناك الكثير من الدول المتضررة من العقوبات الأمريكية مثل إيران وفنزويلا تسعى للخروج من تلك الهيمنة، وهذا يدفع تلك الدول للتحالف وإسقاط الدولار عبر طرح اعتماد الذهب كعملة للتداول من جديد.

ولكن في الوقت الحالي لا زالت أمريكا هي شرطي العالم والأقوى، ليس بجيوشها الجرارة والتكنولوجيا العسكرية والمدنية فحسب، لأن هناك نوعا من المنافسة والتوزان النسبي إما على الصعيد العسكري أو الأسلحة النووية مثل روسيا والصين وغيرهما، فقوتها تكمن في قصاصة الورق التي جوّعت الأرجنتين وفنزويلا ومصر ولبنان ودولا غيرها بفعل الدولار. فإن قوة الدولار تكمن في فرض القيود والعقوبات الاقتصادية، وأكبر مثال إيران التي هبطت عملتها إلى أدنى مستوياتها بسبب العقوبات الأمريكية، ولكن كسر تلك الهيمنة هو رهينة التحالفات الدولية الجديدة التي تسعى جدياً إلى إقامة نظام نقدي عالمي جديد.
التعليقات (0)