هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أجريت الأسبوع الماضي المرحلة الثانية والأخيرة من الانتخابات المحلية في فلسطين، والتي شملت المدن والبلدات الكبرى في الضفة الغربية فقط بعد رفض "حماس" المحق إجراءها في قطاع غزة كونها لم تكن نتاج توافق وطني ولا جزءاً من حزمة انتخاببة كاملة تشمل الرئاسة والمجلس التشريعي، وآلية واضحة لإعادة تشكيل المجلس الوطني باعتباره البرلمان الأهم والجامع وفق أسس ديمقراطية شفافة ونزيهة.
بالتأكيد لا يمكننا الحديث هنا عن عرس ديمقراطي لعدة أساب منهجية ومبدئية وأخرى تفصيلية تتعلق بحيثيات الانتخابات، أي طبيعة المنافسة التي غابت عنها السياسة كما النتائج التي أظهرت حضورا طاغيا للمستقلين والعائلات والوجهاء.
بداية مثلت الانتخابات المحلية بمرحلتيها جزءا من طريق التفافي على التوافق الوطني والحزمة الانتخابية الكاملة ـ تضم الرئاسية والتشريعية ـ التي هرب منها الرئيس محمود عباس بحجج وذرائع واهية، بينما يعرف الجميع خشيته وتياره في حركة "فتح" من الهزيمة رغم أنه وضع بنفسه قواعد ومحددات والروزنامة الانتخابية، ووافقت عليها "حماس" وبقية الفصائل لتكريس التوافق والخيار الديمقراطي باعتبار الانتخابات خطوة جدية وضرورية باتجاه إنهاء الانقسام وإعادة ترتيب البيت الوطني وفق آليات وطنية وديمقراطية شفافة ونزيهة.
هذا يفسر بالطبع عزوف "حماس" عن المشاركة في الانتخابات كقوة مركزية بالشارع القلسطيني، ومنافسة مركزية لـ "فتح" ـ السلطة، وبالتالي منع إجرائها في قطاع غزة أيضاً حيث تسيطر على السلطة.
وبناء عليه، لم يكن غريباً أن يغيب الطابع السياسي عن الانتخابات المحلية أو يحضر، ولكن بشكل خجول رغم إجرائها في المدن والبلدات الكبرى، وللتأكيد فقط فقد كان ثلث القوائم المتنافسة حزبياً. أما الغالبية الساحقة فقد تم تشكيلها من مستقلين ووجهاء وعائلات وعشائر جهوية أو حتى من حزبيين ولكن بإطار مستقل عائلي أو جهوي.
الانتخابات جرت كذلك في أقل من ثلث الدوائر المحددة للمرحلة الثانية في دليل واضح على غياب المنافسة الديمقراطية أو حضورها نسبياً. وعلى سبيل المثال فقد تقدمت لائحة واحدة في 23 دائرة، بينما لم تتقدم أي لائحة في 29 دائرة أخرى، إضافة إلى منعها في غزة، وبالتالي جرت المنافسة في 50 دائرة فقط من أصل 127 كان يفترض أن تجري فيها الانتخابات.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن تنخفض نسبة المشاركة في المرحلة الثانية، لتلامس حدود 54 بالمائة مقابل 65 تقريباً بالمرحلة الأولى ما يشير إلى عزوف الجمهور المديني الحضري الأكثر تسييساً في العادة عن المشاركة في الاستحقاق كونه ببساطة فهم واستوعب خلفيات الحدث وأهدافه.
جرت الانتخابات المحلية بمرحلتيها في ظل أجواء غير مناسبة وتضييق أمني مارسته السلطة وأجهزتها الأمنية ولا تزال ضد خصومها صباحًا مساءاً، حيث بدت في الفترة الأخيرة أكثر كسلطة عالم ثالثية شديدة البشاعة، إضافة إلى تدخل الاحتلال الإسرائيلي الفظ في المرحلة الثانية، بعدما بقي بعيداً نسبياً عن الأولى.
في هذا السياق، مثلت الانتخابات رسالة من قيادة السلطة إلى المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي، تحديداً لتشجيعه على استئناف تقديم الدعم المالي بحجة حرصها على الممارسة الديمقراطية، علماً أن الجميع يعرف أن هذا غير صحيح، وأن ما نحن بصدده ليس سوى طريقا التفافيا على الخيار الديمقراطي الحقيقي.
وعموماً جرت الانتخابات المحلية بمرحلتيها في ظل أجواء غير مناسبة وتضييق أمني مارسته السلطة وأجهزتها الأمنية ولا تزال ضد خصومها صباحًا مساءاً، حيث بدت في الفترة الأخيرة أكثر كسلطة عالم ثالثية شديدة البشاعة، إضافة إلى تدخل الاحتلال الإسرائيلي الفظ في المرحلة الثانية، بعدما بقي بعيداً نسبياً عن الأولى، حيث قام بتهديد واعتقال مرشحين بارزين مثل رئيس القائمة المشاركة والفائزة في مدينة البيرة وهو من حركة "حماس" ولكنه ترشح ضمن ائتلاف ضمّ حزبيين ومستقلين، ولكن تحت لافتة بلدية وخدماتية.
وفيما يخص النتائج، ورغم التضييق الأمني على المرشحين، وعدم مشاركة قوة المعارضة المركزية في انتخابات هي أصلاً قليلة الدسم سياسياً، وتدخل الاحتلال عبر اعتقال بعض المرشحين البارزين إلا أن حزب السلطة "فتح" محمود عباس لم يفز سوى بثلاثة مجالس من أصل 11 في البلديات والمدن الكبرى. وإذا لم تكن هذه هي الهزيمة فما هي إذن؟ وواضح هنا أن التصويت حمل رسالة بلدية ولكن قوية وجلية ضد القيادة الرسمية لـ "فتح" والسلطة على حد سواء.
بالمقابل حققت لوائح تشكلت من حزبيين ومستقلين ووجهاء عائلات فوزاً كبيراً ـ 8 مجالس بلدية كبرى ـ ورغم الطابع المستقل العام للوائح إلا أن حزبيين من "حماس" والجبهة الشعبية شكلوا لوائح أخذت طابعا بلديا محليا أو خدماتيا للدقة لتجاوز الخلافات والتباينات السياسية وحتى قبضة السلطة الأمنية.
في كل الأحوال، لم نكن بالتأكيد أمام عرس ديمقراطي، كما تبجح بعض قادة السلطة كون أمر كهذا لا يمكن أن يجري أصلاً في ظل استبداد وفساد السلطة وهيمنة الرئيس عباس على السلطات كلها، والتصرف كحاكم مطلق وفق النماذج سيئة الصيت في منظومات العالم الثالث.
وللأسف لم تكن الانتخابات خطوة باتجاه العودة إلى الاستحقاق بل الاستحقاقات الديمقراطية وإنما طريق التفافي عليها بمعنى أنها لم تكن خطوة باتجاه الوفاق الوطني وإنما لقطع الطريق عليه.
عبرت الانتخابات عن الواقع الحالي في فلسطين المحتلة، حيث تغيب الديمقراطية بينما بات الانقسام أمراً واقعاً يتعمق ويتجذر للأسف يوماً بعد يوم، علماً أن الانتخابات الأخيرة كانت فرصة مثالية لإنهائه أو على الأقل خطوة مهمة على الطريق الصعب والطويل نحو تحقيق ذلك
لا يقل سوءا عما سبق المجازفة بإحراء الانتخابات في الضفة الغربية، وعدم بذل الجهود الكافية لإجرائها في غزة أيضاً والتراجع عن الإتفاقيات والتفاهمات ذات الصلة في تكريس موصوف للانقسام، علماً أن انتخابات مغايرة ديمقراطية وناتجة عن رؤية وطنية متماسكة كانت كفيلة حتما بإنهاء الانقسام أو على الأقل وضع القدم على الطريق الصحيح لإنهائه.
لا بد من الإشارة كذلك إلى أن الانتخابات المحلية لم تجري في القدس بحجة أنه لا مجالس بلدية فيها، وإن لم يكن هذا تخليا عن المدينة والاعتراف بسيطرة الاحتلال عليها، فما هو التخلي والخذلان؟ خاصة أن الرئيس محمود عباس رفض إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بحجة عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس، علماً أن ثمة طرقا وأساليب عديدة لفرض إجرائها رغماً عن الاحتلال، مع تصويت المقدسيين كل يوم بل كل ساعة بحناجرهم وأياديهم وأقدامهم لصالح مواطنيتهم الفلسطينية، وهوية المدينة العربية الإسلامية المسيحية. وها هو يجري انتخابات محلية يتباهى بطابعها السياسي على تواضعه بدون مشاركة المقدسيين تصويتاً وترشيحاً حسب مصطلحاته هو نفسه.
في الأخير وباختصار وتركيز، عبرت الانتخابات عن الواقع الحالي في فلسطين المحتلة، حيث تغيب الديمقراطية بينما بات الانقسام أمراً واقعاً يتعمق ويتجذر للأسف يوماً بعد يوم، علماً أن الانتخابات الأخيرة كانت فرصة مثالية لإنهائه أو على الأقل خطوة مهمة على الطريق الصعب والطويل نحو تحقيق ذلك، مع الانتباه إلى حقيقة أن لا تحرير بالضرورة دون إنهاء الانقسام والتوحد ضمن إطار قيادي مرجعي أعلى، وبرنامج سياسي توافقي وبدونهما لا يمكن تصوّر إدارة ناجعة للصراع مع إسرائيل، ناهيك عن تحقيق الانتصار الحتمي على أي حال ولو بعد حين.
*باحث وإعلامي