كنا صغارا، ولم نكن نفهم كيف يغيب الوالد قسرا عن البيت.. كنا نتعلق بأهداب كلمات أمي وجدتي، "كلها كم يوم وبابا يرجع، حتى وصلتنا مرة حبة "كبسولة" ملفوفة بعناية فائقة، أشبه بشرنقة فائقة الجمال.. فكت أمي تلابيبها بحرص شديد، وإذا بها تتفتق عن طيات ورق مضغوطة بشدة وقسوة، هي أشبه بطلاسم السحرة.
"هذه رسالة من بابا" لم نفهم، قطع وابل أسئلتنا صوت أمي المتهدج، مزيج من الدموع تزجيها كلمات الشوق والالتياع، جمل قصيرة وعبارات مختنقة مبتورة: "كيفِك يا روحي؟ وكيف الأولاد؟ وكيف حال أمي وأبي.." وأرتال من "كيف وكيف" تحمل كلها ذات الجواب: الحمد لله. "كلنا منيحين يما، المهم رجوعك بالسلامة" تقول جدتي.
كانت حبة الدروبس تلك ـ هكذا صرنا نسميها ـ نافذة الوالد الآمنة الوحيدة من سجنه القسري على العالم، وخيط الأمل الذي يصلنا به، فقد اقتحم جنود
الاحتلال بيتنا في ليلة ليلاء، وأوسعوه ضربا وركلاً وصفعاً، ثم اقتادوه إلى جهة مجهولة، ليصلنا بعد عدة أيام، وعبر منظمة الصليب الأحمر، أنه في المعتقل وألصقت به تهمٌ شتى.
لم تكن أمي تتمالك نفسها وهي تقرأ الرسائل، تغلبها دموعها، فلا تقوى على مواصلة القراءة، فتعهد إليّ أنا أن أقرأ، فأمسك بالرسالة أتحسسها وأتلمس فيها مواضع القلم بخط والدي المحتشم الأنيق، وأجدها أحياناً مشفوعة بدموع مهراقة تكاد تذيب معها نسيج الرسالة الرقيق، فتوشك أن تتمزق بين يدي، لولا نداء الوالدة بإمساك الورقة برفق وتؤدة، كأنها تشفق على حمامة مهيضة الجناح كتب على ريشها أرق كلمات الشوق، وألطف عبارات الحنين، كنت أتخيل الرسالة بريدا ساقته حمامة بيضاء نقية ألفت السماء متنزها رحباً لأحلامها، لا يضيق بها الجو، ولا يذعرها فيه قاطع طريق..
بيني وبينها نسبٌ في الطيران قديم، فلطالما حلمتُ بأني أطير فوق رؤوس الناس وأصافحهم في الشرفات، وأحط على أسطح المنازل، وأعالي قمم الجبال دونما حاجبٍ أو مكدّرٍ، فكانت هذه الرؤى تراودني وتتعاقب على خيالاتي حينا بعد حين، سواء في اليقظة أو في المنام.
وأين أنا الآن من هذا الحلم؟ وأبي مغيب في السجون، مسلوب الحرية، لا يربطنا به سوى خيط رفيع من الأمل، على هيئة كبسولة ضئيلة الحجم، حقيرة الجرم.
"على مهلك يا ولد، تكاد تمزقها" يقطع صوت أمي المخنوق بالعبرات سياحتي مع الحمام في جو السماء... ويهبط بي إلى الأرض، حيث معترك الحياة ومرارة الفقد.
كان الأسرى يكتبون رسائلهم على ورق دقيق صغير الحجم، ويقومون بطيها وثنيها بحرصٍ شديدٍ، فيصبح شكلها أقرب إلى الاستطالة، مثل حبة الفاصولياء تماماً، ثم يدفعون بها إلى أحد زملائهم المزمع الإفراج عنهم، فيبتلعها في جوفه، وعندما يغادر السجن يخرجها مع الفضلات ـ أكرمكم الله ـ وينظفها ثم يوصل الكبسولة لأصحابها.
عملية شاقة ومحرجة، لكنها كانت الوسيلة الوحيدة ـ البعيدة عن رقابة سلطات الاحتلال ـ للتواصل بين السجين وأهله...
كنت أهتم كثيراً لكلمات والدي الموجهة إلي في كل كبسولة: "كن رجلاً" "أنت زلمة الدار". كانت كلماته تفخمني وتستعلي بي عن المحيط من حولي، فبعد أن كنت أشعر باليتم بمجرد أن يضع أحد أصدقاء والدي يده على رأسي، ويسألني عن أخبار والدي في السجن، صرت أجيب بثقة وكبر نفس: أبي بخير، وقريباً سيخرج من السجن، وأستعير من جدتي جملتها المشهورة: "كلها كم يوم ويطلع"، في اختصارٍ مقتضبٍ لمفهوم "الأمل". جدتي التي تعودت الهموم، وألفت المعاناة، وهي التي جربت صروف الدهر؛ شداً وليناً، من التهجير والغربة، إلى الاعتقال وفقد الأحبة، واحداً إثر واحد.
كانت والدتي تضم رسائل أبي إلى صدرها كل مرة، وتضن بها أن يمسها أحد بعد القراءة، وتخط له، بإسرافٍ ـ بخطها المتراقص المتثني الجميل ـ أسطراً باذخةً من التعاشق والاشتياق، وترسلها مع الصليب الأحمر، لتصله بعد أسبوعين أو ثلاثة، والطريف أنه عندما كان أبي يخرج من السجن كنا نحن المشاكسين الصغار "نتغامز" عليه وعلى أمي، ونعيد قراءة الرسائل بينهما، ونقتبسُ بخبث بعضَ العبارات الحميمية، التي كانت تورّدُ خدّي أمي المكلثمَين، وتثير غيرة أبي "الحمش" الذي يأنف ـ أنفة العربي الغيور ـ أن تذاع عنه عبارات الحب والعشق، أنفةٌ فيها مبالغة أحياناً.
خرج أبي من المعتقل، وكبر الحب، وبقيتِ الكبسولات نقوشاً جميلة في
الذاكرة، تخفي وراءها ندوب الماضي.