هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتضح يوما بعد يوم أن عبد الفتاح البرهان نفذ الانقلاب على الشق المدني من الحكومة الانتقالية، التي تشكلت عقب ثورة شعبية، استمرت شهورا طوالا، ونتج عنها سقوط حكومة عمر البشير، دون أن تكون له رؤية حول أي أمر من أمور الحكم، ولهذا ظل منذ تاريخها (21 تشرين أول/ أكتوبر 2021) عاجزا عن الوفاء بأي من الوعود التي بذلها في بيانه رقم 1، بل وعاجزا عن العثور على وزراء ورئيس للحكومة، مكتفيا بإسناد الحقائب الوزارية إلى بعض النكرات الذين يأنس منهم السمع والطاعة العمياء.
ويتضح يوما بعد يوم أيضا أن البرهان أحاط نفسه منذ انقلابه الأخير بنفر من القُفف (جمع قُفَّة التي هي السَلَّة)، ويوصف المرء في العاميتين السودانية والمصرية بأنه قفة للتدليل على أنه بلا إرادة، ويتحكم فيه الآخرون بالإمساك بأُذنيه وجَرِّه إلى حيثما يريدون، فقد وضع تحت إمرته في مجلس السيادة، الذي يفترض أنه مجلس رئاسة الدولة الجماعي، نفرا لا يعصون له أمرا، ومن بينهم قادة فصائل مسلحة كانوا يزعمون على مدى سنوات طوال أنهم يريدون الخلاص من حكم عمر البشير والعسكر عموما، لإقامة نظام ديمقراطي تعددي، ولكن ما أن خصهم البرهان بالمقاعد الوثيرة، حتى سلموه رقابهم وارتضوا أن يكونوا الديكور المدني لسلطته العسكرية.
كان انقلاب البرهان في جوهره انقلابا على وثيقة دستورية كانت المرجعية للحكم الانتقالي بعد سقوط نظام البشير، ونصت على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين، فقد رأى في معظم بنودها ما ينسف طموحه الشخصي في الانفراد بالحكم، أو في أن تكون كلمته هي العليا، ولكن وكما العريان الذي يغطي ذقنه طلبا للستر، فقد اختار أن يستظل بعد الانقلاب بنفس الوثيقة الدستورية، ولكن بعد شطب البنود التي تعطي المدنيين سهما كبيرا في الحكم، ولأنه اختار بطانة من الصنف الذي لا يهش لا ينش، فعندما أراد أن يمد وصايته حتى تشمل مؤسسات التعليم العالي، وأن يكون هو من يسمي شاغلي مناصب مدراء الجامعات، أفاده مستشاروه بأن يمضي قدما في هذا الأمر على أساس أن هناك مادة في الوثيقة الدستورية تعطيه ذلك الحق، فكان أن أصدر فرمانا أطاح به بجميع مدراء الجامعات الحكومية واختار من يخلفونهم، بينما كانت تلك المادة تتعلق بحظر الرق والاتجار بالبشر.
كان انقلاب البرهان في جوهره انقلابا على وثيقة دستورية كانت المرجعية للحكم الانتقالي بعد سقوط نظام البشير، ونصت على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين، فقد رأى في معظم بنودها ما ينسف طموحه الشخصي في الانفراد بالحكم، أو في أن تكون كلمته هي العليا،
وللبرهان مستشار إعلامي برتبة هو العميد الطاهر أبو هاجة، والذي له من اسمه نصيب كبير، فهو في حالة هيجان متواصل ولعله أكثر خلق الله حضورا إعلاميا في السودان خلال العامين الماضيين، فلا يكاد يمر نصف يوم حتى يطلق تصريحا في أمر سياسي أو اقتصادي أو رياضي أو فني، فرغم أن مسمى وظيفته يشي بأن عليه تقديم المشورة فحسب، إلا أنه استغل عزوف البرهان عن مخاطبة المواطنين والمدنيين على وجه الخصوص، فحل محله وصار يفتي في كل شيء، بلغة "لن نسمح بكذا وكذا، وسنفعل كذا وكذا".
وقبل أيام قليلة أقال البرهان مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون للمرة الثانية، ولم يثر ذلك الكثير من العجب، رغم أن حق تعيين شاغل تلك الوظيفة ومن ثم إنهاء خدماته من صلاحيات رئيس الوزراء وحده، ولكن البرهان ظل عازفا، طوال الشهور الماضية، عن تعيين رئيس للوزراء حتى ينعم هو بصلاحيات تنفيذية لا يتمتع بها في وظيفة رئيس مجلس السيادة، ثم تطوع أبو هاجة بوضع النقاط على الحروف: كان التلفزيون السوداني الرسمي يهمل بث أخبار تتعلق بأفعال وأقوال البرهان في صدر نشراته الإخبارية، "ويهمل الأخبار المتعلقة بالقوات المسلحة"، ولم يفتح الله على أبو هاجة أن يأتي بمثال لأمر يستحق التغطية الإعلامية يخص تلك القوات طوال الشهور الماضية.
ثم نضح الرجل الذي يحمل لقب مستشار إعلامي جهلا بأصول العمل الإعلامي، فقد استنكر عدم تقيّد نشرات الأخبار التلفزيونية بالتراتبية البروتوكولية، بحيث يجب أن يأتي كل أمر يخص رئيس مجلس السيادة (البرهان) في صدر النشرة، مع أن أبسط قواعد العمل الصحفي هو أن قيمة الخبر تكمن في محتواه وأهمية ذلك المحتوى، للمتلقي ولا قيمة لأخبار من شاكلة تلقي صاحب أرفع منصب في الدولة اتصالا هاتفيا بالتهنئة بحلول رمضان من الرئيس فلان الفلاني، أو بحثه القضايا ذات الاهتمام المشترك (المبهمة) مع نظيره الفلتكاني.
ولكن لأن الثرثرة تقود إلى الزلل، فقد فلتت عبارة صغيرة من لسان أبو هاجة هذا عندما نعى على التلفزيون السوداني التضخيم من أمر المظاهرات (المناوئة للبرهان)، وما لم يستطع أن يقوله صراحة هو أن التلفزيون نقل جانبا من مواكب مليونية في السادس من نيسان/ إبريل الجاري شهدتها سبع مدن سودانية، هتفت خلالها الحشود منادية بإسقاط انقلاب البرهان ورافضة لوجود العسكر بأي صفة في دهاليز الحكم، ولا شيء ينغص "عيشة" العسكر في السودان سوى استمرار موجة المظاهرات ضد حكمهم، وكل موجة أكبر من سابقتها.
ومواصلة لنهج الاستعانة بذوي الولاء والطاعة له في كل مضمار أصدر البرهان في 12 نيسان (إبريل) الجاري قرارا بأن يخضع البنك المركزي للجنة الاقتصادية التي يرأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو رجل نصف أمي لا يعرف له أحد مجال عمل سوى القتال نظير حافز مادي، وجمع أموالا طائلة ليس لدرايته بأصول المال والاستثمار والاقتصاد، ولكن لأنه وضع يده عنوة على ثروات طبيعية من بينها الذهب وجيّر عائداتها لمصلحته الشخصية.
والشاهد هو أن البرهان هو حاكم الأمر الواقع في السودان، ولكنه بلا رؤية سوى ما قاله بنفسه عن الرؤيا المنامية لوالده الذي قال إنه سيكون رئيسا للبلاد يوما ما، والشاهد هو أنه ومعاونيه جعلوا من السودان بلدا شديد الهشاشة، أي مستودع خزف كل شيء فيه عرضة للتهشيم، ولا أجد ما يلخص حاله أكثر من كلمات للشاعر المصري صلاح أبو سالم تغنى بها عبد الحليم حافظ:
على حسب الريح ما يودي الريح، ما يودي / وياه أنا ماشي، ماشي ولا بيدي/ معرفش ان كنت مروِّح ولا امتى الهوا ح يهدي.... / لا ح اسلم بالمكتوب ولا ح ارضى أبات مغلوب.
يا لبلاغة الشعر في تصوير حال من هو في حيص بيص.