كثيرة
هي القضايا التي يمكن التوقّف عندها في سياق الحديث عن التطوّرات الأخيرة في
الساحة
الفلسطينية، وتحديدا ما جرى ويجري في
المسجد الأقصى، ونوايا اقتحامه من قبل
الغزاة خلال "عيد الفصح"، وصولا إلى طقوس دينية لها دلالاتها فيما يتعلق
ببناء "الهيكل" على أنقاض المسجد.
لا
بد من القول ابتداءً إنه لا شيء يذكّرنا بجوهر الصراع مع الكيان الصهيوني مثل قضية
القدس، ومن ضمنها، بل في مقدمتها تلك البقعة الصغيرة في المدينة القديمة التي
تحتضن المقدسات الإسلامية، وأهمّها المسجد الأقصى.
ديفيد
بن غوريون؛ أحد أهم مؤسسي الكيان الصهيوني لخّص الأمر قبل أكثر من 70 عاما،
بالقول: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
والهيكل بالطبع مكان الأقصى؛ بزعمهم.
ولأن
هذا هو الموقف الذي يُجمِع عليها الصهاينة بكل ألوانهم (أكثرهم حمائمية "يوسي
بيلين" قال خلال مفاوضات كامب ديفيد؛ صيف العام 2000، إن الهيكل بالنسبة
لليهود مثل الكعبة بالنسبة للمسلمين)، لأن الأمر كذلك، فإن كل ألعاب الحلول
والتسويات ستنتهي كما انتهت مفاوضات كامب ديفيد، وكما انتهت مفاوضات عباس مع
أولمرت، وكما نُسخت "صفقة القرن" لصاحبها ترامب، فلا أحد يجرؤ على
التنازل عن القدس واقتسام المسجد الأقصى مع الصهاينة؛ بما يمهّد لإقامة الهيكل
المزعوم.
من
المهم التذكير أن هذه الهبّة الجديدة لم تأت منفردة، بل جاءت بعد سلسلة من
العمليات البطولية التي شهدتها الأراضي المحتلة، ومناطق 48؛ الأمر الذي أصاب
الغزاة بحالة من الهستيريا، ويكفي أن تقرأ كل يوم لكتاب صهاينة حديثا عاطفيا عن
ارتباطهم بهذه الأرض، وأن "الإرهاب" لن يزحزحهم منها، حتى تدرك حقيقة
الخوف الذي دبّ في أوصالهم جرّاء العمليات الأخيرة، لا سيما أننا أمام مجتمع يعاني
حالة من التدهور المعنوي.
ولولا
"حبل من الناس" يوفّره محمود عباس بسياساته البائسة؛ مع حصار عربي رسمي
للشعب الفلسطيني، لكان وضع الغزاة أسوأ بكثير.
الجانب
الآخر في مشهد الهبّة الأخيرة أنه يأتي بعد مسلسل هرولة عربية رسمية في اتجاه
الكيان، الأمر الذي منحه الآمال بتصفية القضية عبر "السلام الاقتصادي"،
وأقله بنسخها من الأجندة العربية والدولية، وتكريس البؤس الراهن بوجود سلطة تمنح
الغزاة "أرخص احتلال في التاريخ"، مقابل هياكل دويلة تافهة، ما يجعلها
(الهبّة) أكثر تأثيرا، ذلك أن الصهاينة لا يمكن أن ينسوا أن موجة تطبيع وهرولة
مشابهة بعد أوسلو، كانت قد دُفنت إثر "اندلاع انتفاضة الأقصى"، صيف
العام 2000، ويمكن للموجة الجديدة أن تجد ذات المصير؛ إذا تطوّر الوضع نحو انتفاضة
مشابهة، مع أن عدم حدوث ذلك هذه المرة، لا يعني أن احتمال اندلاعها من جديد قد
نُسخ.
هناك
بُعد بالغ الأهمية لا ينتبه له كثيرون، ويتعلق بمعادلة الأجيال، فما حدث طوال
السنوات الماضية هو أننا كلما بشّرنا بانتفاضة جديدة، خرج من يحدّثنا عن واقع
الضفة الغربية وما فعله عباس من حيث تدمير إمكانات المقاومة المادية والمعنوية،
وإعادة تشكيل الوعي الشعبي. وكنا نردّ بأن اليأس الذي يصيب الكبار لا ينسحب على
الأجيال الجديدة التي تملك قابلية عالية للتضحية، وهي تنتظر الفرصة لذلك. الذين
رأيناهم يواجهون العدو في القدس والأقصى، ثم في الضفة، فضلا عن أبطال غزة، هم من
هذا الجيل الذي لم يعرف سوى مرحلة عباس بكل ما حملته من بؤس وهزيمة وتعاون أمني مع
العدو، لكنهم أظهروا تمرّدا استثنائيا في هذه المعركة، وفي سلسلة العمليات الفردية
التي تابعناها، وسيواصلون ذلك.
لفلسطين
طقوسها في اجتراح البطولة، ما يعني أنه لا يأس أبدا، إذ لكل مرحلة رجالها، وهذا
ينسحب على أبناء الأمّة الذين يتفاعلون مع الحدث الفلسطيني كأنهم جزء منه؛ وهم
كذلك. ولو انفتحت الحدود، لرأينا من شبابها العجب العجاب.
لا
بد من استعادة حديث العمليات والبطولات الفردية، ذلك أن فشل فصائل المقاومة في
تشكيل خلايا، وانكشاف كل المحاولات، ينبغي أن يدفع في اتجاه ترميم أوضاعها،
ومساءلة المسؤولين الفاشلين، لكن الذي لا يقل أهمية هو ضرورة أن يدفع في اتجاه
تشجيع العمليات الفردية، وتبنّي أبطالها كما لو كانوا عناصر في تلك الفصائل.
ثمة
بُعد مهم يتعلق بالتراجعات التي سجّلها الغزاة، وزعيمهم المتطرّف
"بينيت" فيما يتعلق بنوايا المستوطنين اقتحام الأقصى، وذبح "قربان
الفصح"، والعمل على منعهم.
هذا
الجانب يؤكد خشية الغزاة من الانتفاضة، وكذلك من تكرار سيناريو "سيف
القدس" العام الماضي، في ذات الوقت الذي يؤكد أن المقاومة وحدها هي ما يمكن
أن يدفع
الاحتلال إلى التراجع.
لكن
الحقيقة الأكثر أهمية هي أن الطبيعة المتغطرسة للكيان ما زالت راسخة، ذلك أن أي
شيء لن يوقف مخططاتهم، وإن أعاد برمجتها أو كبح وتيرتها، كما لن يغيّر موقفه من
قضية الأرض و"يهوديتها"، ولا من قضية القدس والأقصى، فمن يعتبر
"قبر يوسف" في نابلس من أقدس الأماكن، وكذلك المسجد الإبراهيمي في
الخليل، لا يمكن أن يتهاون في قضية "الهيكل"، ولا يمكن أن يتنازل عن
أراضي 67، وهو يردّد صباح مساء حكاية "يهودا والسامرة".
هذه
الحقيقة هي الكفيلة بإعادة الصراع إلى أبجدياته الحقيقية، وبوصلته الصحيحة، مهما
تاه التائهون في أروقة التفاوض وأوهام الحلول.
الملاحظة
الأخيرة التي ذكّرت بها الأحداث الأخيرة هي أن قيادة رام الله ما زالت تمثّل العبء
الأكبر على شعبنا وقضيته، وكل بياناتها وصراخها لا يغّير في هذه الحقيقة، بل
يؤكدها. وحين يردّ عليك البعض بالقول إن عددا من الشهداء والأبطال كانوا من حزب
السلطة (حركة "فتح")، فهذا ليس فضيلة، بل يمثّل إدانة لعباس ولقيادة
الحركة، فخروج أفراد منها عن الخط، والاحتفال بهم باعتبارهم أبطالا، إنما يؤكد أن
عبثية الخط الأصلي المُتبنّى رسميا.
مثل
هذه القيادة لا ينبغي التعامل معها باحترام من قبل قوى المقاومة، ومن قبل شرفاء
الشعب الفلسطيني، بل لا بد من بذل كل جهد من أجل حصارها وعزلها بعد فضح خياراتها،
ومسيرتها الطويلة في مطاردة الأوهام.
الخلاصة
أنها القدس التي ما لبثت تعيد الصراع إلى أبجدياته كلما دفعه باعة الأوهام نحو
التيه، وستواصل ذلك حتى يكون التحرير بإذن الله.