تجاوز الرئيس
قيس سعيد جميع الخطوط الحمراء، وذلك عندما سمح لنفسه بصفته رئيسا للدولة بالمس بالقانون المنظم
للهيئة المستقلة للانتخابات. لم يكن مضطرا لفعل ذلك من الناحية الشكلية، إذ كان بإمكانه التوجه نحو تنظيم الاستفتاء الذي يرغب فيه، وكذلك الشأن بالنسبة للانتخابات التشريعية التي ينوي القيام بها يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر القادم، تحت إشراف نفس الهيئة، ودون تغيير في أعضائها وفي قانونها الداخلي، وستكون النتيجة من حيث الشكل متطابقة مع ما يريد. لكن رغم ذلك، أصر إصرارا على أن يتولى هو شخصيا ارتكاب هذا الخطأ الفادح، بناء عليه خسر خمس نقاط دفعة واحدة.
في الأولى، أثبت قيس سعيد أمام الجميع أنه يريد إقامة حكم فردي مطلق. فهيئة الانتخابات تعتبر من بين أهم المكاسب التي تحققت بعد الثورة، بحكم أنها تولت تنظيم جميع الانتخابات الأخيرة باستقلالية كاملة عن السلطة التنفيذية، حيث لم يعد من صلاحيات وزارة الداخلية ومن ورائها رئاسة الدولة التدخل في جميع مراحل العملية الانتخابية، وبذلك انتهت قصة التزوير التي ضربت في الصميم مبدأ الاقتراع الحر. اليوم، ومهما حاول الرئيس أن يؤكد خلاف ذلك، فإن مصداقية الانتخابات القادمة قد ضربت في العمق، وذلك بعد تدخله الشخصي في اختيار كامل أعضاء الهيئة، فوضع نفسه في موقع الشبهة، خاصة أنه سيكون مرشحا لدورة ثانية بعد سنتين، أي إنه صاحب مصلحة مباشرة، واليوم سيكون أيضا الحكم في تحديد الفائز!!
أثبت قيس سعيد أمام الجميع أنه يريد إقامة حكم فردي مطلق. فهيئة الانتخابات تعتبر من بين أهم المكاسب التي تحققت بعد الثورة، بحكم أنها تولت تنظيم جميع الانتخابات الأخيرة باستقلالية كاملة عن السلطة التنفيذية
في النقطة الثانية، أثبت سعيد أنه لم يعد محتاجا لشركاء يساعدونه على استكمال المشوار في إدارته لشؤون البلاد، فالذين يساندونه في سياساته، ويظنون أنهم بذلك يحسنون صنعا، وأن الرئيس سيلتفت إليهم، وسيعتمد عليهم، وسيحتاج لمشورتهم ونصائحهم، وجدوا أنفسهم الآن بدون دور ولا قيمة سياسية؛ يلهثون وراء الرئيس فلا يعبأ بهم رغم أن أصوات بعضهم قد بُحت، وهي تدعو له، وتدافع عنه صباحا مساء، وتبحث له عن مبررات لكل قرار يتخذه وكل خطوة يقدم عليها. مع ذلك لم يلتفت إليهم حتى الآن، ووجدوا أنفسهم مورطين في دعم حكم فردي مطلق، سيكونون هم من بين ضحاياه.
في النقطة الثالثة، تأكد للجميع أن الشغل الشاغل لدى قيس سعيد هو تغيير النظام السياسي والتحكم في الدولة، وأن ذلك مقدم على إنقاذ البلاد من
أزمة اقتصادية تطحن الجميع، وفي مقدمتهم هذا الشعب المنهك والمفقر، الذي تبخرت آماله في الوصول إلى الرفاه، فأصبح همه الرئيسي: هل سيتمكن موظفوه من استلام رواتبهم في آخر الشهر، وهل سيحصل ضعفاؤه على الخبز والطحين، وهل سيجد المرضى الدواء ومستلزمات العلاج؟ ورغم أن الاستشارة التي أنجزت بمختلف الوسائل والطرق، قد أثبتت أن المواطن لا يعبأ بما يسعى إليه الرئيس من تغييرات دستورية وهيكلية، إلا أنه مصر على القول بأن ما يقوم به ليس فقط هو عين الصواب، وإنما منبعه هو إرادة الشعب الذي فوضه للقيام بذلك.
فقد الخطاب السياسي مضمونه ودلالته. لم يعد الخطاب واضحا، حيث يتكثف الغموض، مما جعل البلاد تعيش حالة غيبوبة شاملة
في النقطة الرابعة، فقد الخطاب السياسي مضمونه ودلالته. لم يعد الخطاب واضحا، حيث يتكثف الغموض، مما جعل البلاد تعيش حالة غيبوبة شاملة. لا الرئيس يسمع ما يقال له وما يدور من جدل في صفوف المثقفين والعامة، ولا النخبة العالمة قادرة على تفكيك شفرات الخطاب الرسمي الذي ينفرد بمصطلحاته ومفاهيمه وأحكامه وألغازه. وعندما ينفصل الخطاب عن سامعيه وجمهوره، يفقد دلالته، ويصبح مجرد صدى فارغ من المضامين، ولا أثر له في الواقع. إنه حلم الفرد
المفارق لشعبه والبعيد كل البعد عما يجري على كوكب الأرض.
في النقطة الخامسة، يتأكد يوما بعد يوم أن
تونس التي كانت بلدا واعدا، تحولت إلى ملف يدرس بين الحكومات والهيئات الدولية كحالة مستعصية. فعضو لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي " جيم ريتش" يؤكد في تدوينة له تعليقا على المرسوم الأخير المتعلق بهيئة الانتخابات: " تفكيك قيس سعيد للمؤسسات
الديمقراطية، يعرّض العلاقات التونسية الأمريكية للخطر".
يتأكد يوما بعد يوم أن تونس التي كانت بلدا واعدا، تحولت إلى ملف يدرس بين الحكومات والهيئات الدولية كحالة مستعصية
أما الأمم المتحدة، فقد وجهت تحذيرا عن طريق الناطقة باسم أمينها العام إلى قيس سعيد، بسبب "ابتعاد تونس عن الديمقراطية". وجددت الأمل في إمكانية قيام حوار دائم من أجل استمرار المسار الديمقراطي.
حتى فرنسا التي يعتبر رئيسها ماكرون صديقا شخصيا لقيس سعيد، لم تعد مستوعبة بشكل جيد ما يجري على الساحة التونسية. فالرئاسة الفرنسية توجه النصائح تباعا، والرئاسة التونسية تفعل العكس تماما، مثلما هو الشأن مع الجهات الأمريكية وغيرها، وهو ما أدى إلى تعميق حالة العزلة الدولية. لقد أصبحت تونس خارج كل المطابخ الإقليمية والعالمية التي تصنع فيها السياسات، وتشارك من خلالها الدول الفاعلة في إدارة شؤون العالم.
في ظل هذه الضبابية الكثيفة وفقدان الرؤية، يواصل الرئيس سعيد قيادة الدولة والمجتمع نحو المجهول.