كتاب عربي 21

هموم مصرية لا مسيحية

شريف أيمن
1300x600
1300x600
يتصاعد الحديث مؤخرا عن عمليات عنف موجهة ضد المسيحيين المصريين، وعادةُ هذه الأحداث أن يتزامن معها خطابان؛ خطاب الدولة عن العنف "الإرهابي" لا الطائفي باعتبار أن الدولة في حالة صراع مع جماعات "الإرهاب"، وخطاب مسيحي عن الاضطهاد الإسلامي للمسيحيين. والأخير هو ما يعنينا بالأساس، إذ خطاب الدولة مندرج في موضع الانتهازية السياسية، أما خطاب القيادات الكنسية فيشغلنا لأن المصريين المسيحيين منا ونحن منهم، والتداخل اليومي في التعاملات التجارية أو الجيرة يُحتِّمان ألا يكون هناك سبيل للشقاق أو التصدّع.

نحن هنا أمام حالة تحتاج إلى تفكيك عناصرها قبل القفز على الاستنتاج، وأحد أهم هذه العناصر سبب الجنوح تجاه العنف، من قِبَل التيارات التي تزعم أنها متدينة، إذا صَدَرَ ما يستدعي الخلاف. وقد سبق على وجود هذه التنظيمات حوادث توتر طائفي، أبرزها مسألة المؤتمر القبطي عام 1911، ولم يصدر عن المشائخ وقتها ما يستدعي تدمير المكان أو قتل من يخطب فيه، بل مرّ المؤتمر بوقائعه وردود الفعل الغاضبة ضده دون توجّه عنيف، وكذا مرّت العديد من وقائع الفتنة الداخلية دون أن يجري شيء مما يتكرر منذ سبعينيات القرن الماضي، ليطرأ سؤال هام عن سبب هذا الانحراف في المسألة الوطنية.
كانت هناك طاقات عنف، وأفكار عنف تسربت وتربّت في حِجْر وكَنَف الأنظمة العربية في المنطقة، وتحديدا المملكة السعودية، ثم كانت هناك حاجة لتأصيل ثقافي وفكري، فكان الدين هو قاعدة هذا التأصيل، وهنا نقطة أخرى شديدة الأهمية

لا أزعم الإحاطة بجوانب هذا الإشكال، لكن هناك قَدْر يحتاج إلى جهد المعاصرين للأحداث قَبْل جهد الباحثين، والقدر الذي أعرفه أن العنف دخل على الخط من جهة جماعات الجهاد ابتداء، لا من جهة الجماعة الإسلامية، وهذا التدقيق مهم، فقد سمعتُ من أحد القيادات السابقة للحركة، أن "الجهاد" لم تكن في بدايتها جماعة واحدة، بل كانت مجموعات متعددة، ونجح عبد السلام فرج في التنسيق بين مجموعاتها في الجيزة، وهي المجموعات التي شاركت في اغتيال السادات، وقد كانت أكثر تنظيما وأكثر تدريبا من الجماعة الإسلامية. وعلّل المصدر هذه الكفاءة بنقطة شديدة الأهمية؛ فقد كانت هذه المجموعات يقودها ضباط سابقون أو ما زالوا في الخدمة حينها، مما جعلهم أكثر تنظيما وتدريبا. وهذه النقطة لا يصح أن تمر مرور الكرام، فالعنف دخل إلى التنظيمات الدينية من بوابة أبناء القوات المسلحة والشرطة، وهذا سبب كافٍ للاسْتِرَابَة من هذا المدخل.

كذلك كانت هناك طاقات عنف، وأفكار عنف تسربت وتربّت في حِجْر وكَنَف الأنظمة العربية في المنطقة، وتحديدا المملكة السعودية، ثم كانت هناك حاجة لتأصيل ثقافي وفكري، فكان الدين هو قاعدة هذا التأصيل، وهنا نقطة أخرى شديدة الأهمية.

أيُّ عملية شحن ثقافي لا بد أن تكون مستندة إلى ثقافة عموم هذا الجمهور المُستهدَف، والدين في منطقتنا هو السائد، ولو كنا في مجتمعات غير مسلمة لكان هناك مبرر آخر لأي عنف، كالمبرر العِرقي أو القومي أو الأيديولوجي أو غير ذلك من مكونات الثقافة في المجتمعات، فلما كان الدين هو أصل الثقافة هنا، كان لا بد من توظيفه من قِبل الجهلاء أو الانتهازيين. فالإشكال في التوظيف وليس في النص الديني، إذ لو كان النص الديني سببا في العنف لدُمّرت الكنائس الأثرية وقت الفتح الإسلامي الذي كان في مواجهة مسيحيين، أو لدُمّرت من بعده إلى يومنا هذا وما بقيت كنيسة في مصر، وهذا وقت عصور لم تكن فيها هناك ثقافة المواطنة، بل كان الأساس فيها ولاية الدين لا المبادئ الوضعية، فكيف يكون النص سببا للتدمير، في حين أن أقرب الأزمنة إليه كانت محافظة على الكنائس؟ ألا تثير تلك المسألة العقلَ للبحث عن جواب؟
أيُّ عملية شحن ثقافي لا بد أن تكون مستندة إلى ثقافة عموم هذا الجمهور المُستهدَف، والدين في منطقتنا هو السائد، ولو كنا في مجتمعات غير مسلمة لكان هناك مبرر آخر لأي عنف، كالمبرر العِرقي أو القومي أو الأيديولوجي أو غير ذلك من مكونات الثقافة في المجتمعات، فلما كان الدين هو أصل الثقافة هنا، كان لا بد من توظيفه

إذاً صادفت هيمنة الدين كأساس للثقافة العامة، رغبةَ البعض في إحداث وقيعة بين المسلمين والمسيحيين لإضعاف قوة المجتمع أمام أي هجوم ثقافي أو عسكري عند الحاجة، وأصبحت هناك رغبة مسيحية في الهجرة إلى خارج مصر مصحوبة بضعف الانتماء، كما أصبحت هناك رغبة لدى قطاعات من المسلمين في الابتعاد عن وجود المسيحيين في حياتهم، وأصبحت هناك مؤسسات تقوم على العمالة المسيحية فقط، أو المسلمة فقط، وفي المؤسسات الكبرى التي يصعب فيها ذلك تجد أغلب القيادات الإدارية من أبناء ملة صاحب أو أصحاب المؤسسة، كما تعمّقت مفاهيم تعزيز الهوية الدينية إزاء الآخر لا إزاء الأفكار التي تدعو إلى الابتعاد عن الدين، باعتبارها أفكارا مهاجمة لأساس عمل الرهبان والدعاة على السواء.

جرى كل ذلك برعاية ثالوث داخلي؛ النظام السياسي، والتنظيمات الدينية الإسلامية السلمية والمسلحة في السبعينات، واعتلاء البابا شنودة للكرسي البابوي، وهو أحد أبناء تنظيم الأمة القبطية الذي اختطف البابا يوساب الثاني. وقد كان البابا الراحل مشغولا بتشكيل زعامته كقائد للمسيحيين المصريين، في الداخل والخارج، وساعدته موهبته في بلوغ الزعامة، لكنه لم يوظفها بصورة وطنية تماما، بل اختلطت الوطنية بالزعامة، وغلبت الأخيرة على الأولى.
الغرض من الإشارة إلى أسباب التوتر الطائفي تحديد الأسباب لمعالجة مواطن الالتهاب، لا تحميل الأوزار لفئة دون أخرى، فلا يمكن لوطن أن يبقى وفيه بذرة طائفية، ولا يمكن التعمير وبعض أبناء الوطن مشغولين بتعمير خاص بأبناء المِلّة

تصادف وجود البابا شنودة مع وجود انحراف في الفكر الديني المصري المتأثر بالثقافة الوهّابية لا الحنبلية، والوهّابية ثقافة دموية وإقصائية بطبعها، وقد كان الراحل محمد بن عبد الوهاب فقيرا في العلم، وشرسا في القتال، فأحدث ما أحدثه من فتنة في المجتعات التي انساقت وراء أموال المملكة. وقد كشف ولي العهد الدموي كذلك أن نشرهم للوهابية كان بطلب من الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، فالدموية امتزجت مع رغبة المحتلين لإضعاف هذه المنطقة وتمزيقها جغرافيا وسياسيا واجتماعيا ودينيا، وتلقَّفَ أبناء التنظيمات الدينية المصرية هذه العصارة الخبيثة، فانتقلوا من رحاب الشريعة إلى مرابض المستعمرين السابقين.

إن الغرض من الإشارة إلى أسباب التوتر الطائفي تحديد الأسباب لمعالجة مواطن الالتهاب، لا تحميل الأوزار لفئة دون أخرى، فلا يمكن لوطن أن يبقى وفيه بذرة طائفية، ولا يمكن التعمير وبعض أبناء الوطن مشغولون بتعمير خاص بأبناء المِلّة، ولا يمكن التماسك لوطن فيه بشر فقدوا الانتماء بسبب دينهم، لذا يصير الهمّ المسيحي همّا مصريا خالصا، لا همّا طائفيا، وعلينا جميعا أن نزيل أسباب التوتر الطائفي، وألا يكون هناك أحد فوق قيمة التماسك الاجتماعي، مهما كانت سلطته الروحية أو السياسية.

twitter.com/Sharifayman86
التعليقات (0)