هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تزال الأنظمة الاستبدادية والشمولية تنظر إلى السياسة على أنها سبب لتذرر وتشتت المجتمع، وسبب لإضعاف الدولة، وأن الولوج فيها هو نوع من الترف الفائض عن حاجة المجتمع والدولة.
تشكل دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحوار وطني شامل خلال مأدبة إفطار الأسرة المصرية، نموذجا جليا لعقلية الأنظمة السلطوية في العالم الثالث بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص.
في مأدبة الإفطار الرمضانية، قال السيسي إن الإصلاح السياسي كان هدفا للدولة، لكن الأولويات حالت دون ذلك.
تتطلب هذه الدعوة وهذا التصريح الوقوف على أمرين في غاية الأهمية من أجل استجلاء خلفيات الدعوة للحوار أولا، ولاستقراء نتائج الحوار ثانيا.
أولا، يشير كلام السيسي في أن الأولوية لم تكن للإصلاح السياسي خلال السنوات الثمان الماضية، إلى أن النظام المصري لا يعتبر الديمقراطية والليبرالية وتوفير الحريات السياسية والمدنية وتأمين الحقوق الفردية والتعبير عن الرأي، ضرورة ذات أهمية لبناء المجتمع والدولة، فهذه الأمور قد تؤدي إلى الفتن والاضطرابات، وعليه فإن الإصلاح السياسي يجب أن يأتي بعيد توفير بيئة أمنية واقتصادية سابقة عليه، كي يكون ممسوكا بقوة من قبل النظام، حتى لا يحيد عن الوجهة المرسومة له سلفا.
لقد كشفت التجارب العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، في جنوب أوروبا وشرقها، وفي أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، أن نهوض الدول وتطورها لا يحصل إلا بالتغيير السياسي الجدي، الذي ينقل الدولة من مصاف الدولة الاستبدادية إلى مصاف الدول الديمقراطية.
أما الاستقرار الأمني، فيتحقق إما عبر الإصلاح السياسي الذي ينتج ديمقراطية يشارك فيها الجميع، أو عن طريق القمع الشديد، لكن الحالة الأخيرة تؤدي إلى شلل في المجتمع وتدميرا للمجتمع المدني كوسيط بين الدولة والمجتمع.
كما بينت التجارب التاريخية أن التطور الاقتصادي أو التنمية المستدامة لا تتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي ـ ليبرالي.
وبينت النظريات أيضا في علم السياسة وفي علم الاجتماع السياسي أهمية النخب السياسية في عملية التغيير هذه، خصوصا في مراحل الانتقال إلى الديمقراطية، كما هو الحال في مصر.
لم تأت دعوة السيسي للحوار نتيجة إدراك أو انعطافة سياسية وأيديولوجية بضرورة الإصلاح السياسي في مصر بعد سنوات من تأميم الحياة السياسية، وتحول القوى السياسية والمدنية في غالبيتها إلى كومبارس.
إن الفشل الاقتصادي الذي ظهر هذا العام بعيد وباء كورونا والأزمة الأوكرانية، ضرب عرض الحائط الاستراتيجية الاقتصادية التي اتبعها النظام خلال السنوات الماضية، والقائمة على كثر الاقتراض من الخارج، من أجل بناء مشاريع لا تساهم على الإطلاق في تحقيق التنمية الشاملة.
ومع وجود حالة تململ في الشارع المصري من الوضع الاقتصادي ومن غياب الحريات وأعداد معتقلي الرأي في السجون من جهة، والضغط الدولي على النظام المصري من جهة ثانية، كلها عوامل دفعت النظام إلى الدعوة للحوار الوطني.
بطبيعة الحال، لا يشكل الضغط الخارجي في ذاته سببا لتحرك النظام، لأن السيسي خلال السنوات القليلة الماضية لم يستجب للضغوطات الأميركية والأوروبية حيال ملف حقوق الإنسان.
آنذاك، كان ما يهم النظام من المجتمع الدولي هو الاعتراف بشرعيته السياسية ليس إلا، أما اليوم فمصر بحاجة إلى مساعدات اقتصادية، وهذه مربوطة، أو جزء منها بملف حقوق الإنسان.
ثانيا، ظهر مفهوم السلطوية الانتخابية في تسعينيات القرن الماضي للدلالة على بعض النظم السلطوية التي أدخلت تغييرات سياسية على بعض جوانبها، الأمر الذي أكسبها سمات جديدة تختلف عن سمات السلطوية النقية، واستخدم الباحثون بعض المصطلحات: الأوتوقراطية الليبرالية، السلطوية الانتخابية.
في هذه النظم توجد بعض مظاهر النظام الديمقراطي مثل: تعدد الأحزاب، إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بشكل دوري، حرية نسبية للإعلام، نظام قضائي يحظى بدرجة من الاستقلال، حريات مدنية محدودة.
إن عدم إشراك الإخوان في الحوار الوطني من جهة، والضغط وملاحقة بعض القوى السياسية الأخرى في الداخل المصري من جهة ثانية، وتدمير قوى المجتمع المدني من جهة ثالثة، يعني أن الحوار الوطني هدفه ليس إجراء انعطافة سياسية ودستورية في البلاد، بقدر ما هو محاولة لإضفاء نوع من الشكل الليبرالي على نظام الحكم.
لكن هذه المظاهر تمارس في إطار هيمنة حزب واحد أو شخص واحد مسيطر، وتستخدما هنا الأغلبية البرلمانية بطريقة تعسفية لتمرير قوانين دون إتاحة الفرصة الكافية لمراجعتها، ويحدث التلاعب بالنصوص القانونية لإقصاء المنافسين.
كما أن هذه النظم تقوم بعملية إقصاء سياسية للقوى التي تشكل لها تهديدا مباشرا، كما حدث في مصر مع جماعة الإخوان المسلمين الذي فازوا بالانتخابات بشكل ديمقراطي نزيه.
إن عدم إشراك الإخوان في الحوار الوطني من جهة، والضغط وملاحقة بعض القوى السياسية الأخرى في الداخل المصري من جهة ثانية، وتدمير قوى المجتمع المدني من جهة ثالثة، يعني أن الحوار الوطني هدفه ليس إجراء انعطافة سياسية ودستورية في البلاد، بقدر ما هو محاولة لإضفاء نوع من الشكل الليبرالي على نظام الحكم.
ويستغل النظام المصري انفراط عقد القوى السياسية والمدنية واختلاف توجهاتها ومصالحها، بما يحول دون تشكل كتلة متماسكة من المعارضة، على الرغم من أن العريضة التي قدمها سياسيون وحقوقيون وإعلاميون تشير من الناحية النظرية إلى تماسك هذه الفئة، لكن العبرة تبقى كامنة في النتائج.
*إعلامي وكاتب سوري