مهما كان موقفنا من دور المركزية النقابية بعد الثورة التونسية، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن ما سمّي بـ"ماكينة الاتحاد" (أي آلته التعبوية وشبكاته داخل الإدارة وأجهزة الدولة والإعلام والمجتمع المدني) كانت فاعلا أساسيا في هندسة المشهد التونسي منذ الأيام الأولى لرحيل المخلوع. وقد عملت المركزية النقابية، وهي التي كانت جزءا بنيويا في السلطة وشريكا اجتماعيا أساسيا ومنظمة مساندة للنظام الفاسد ولتعديلاته الدستورية المشبوهة، على إنقاذ ابن علي ونظامه بالدعوة إلى إضرابات جهوية لا إلى إضراب عام. ولكنها بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 ركبت المد الثوري واعتبرت أن مشاركة النقابيين -من القيادات الصغرى والوسطى- في الاحتجاجات تكفي لتعتبر المركزية النقابية نفسها قاطرة الثورة والوصي عليها.
بحكم ضعف الحقل السياسي وهشاشة أغلب مكوناته "الحداثية" -بعد دخول الإسلاميين إلى المشهد السياسي وما مثله هذا الحدث من اختلال جذري في توازنات المنظومة القديمة- اعتبر الاتحاد نفسه حليفا استراتيجيا لكل التشكيلات السياسية والمدنية التي تطرح نفسها بالتعارض مع الإسلاميين، أي لكل القوى الرافضة للتطبيع مع الإسلاميين، والتي حرفت الصراع عن مداراته الحقيقية المرتبطة باستحقاقات الثورة فأحيت -بدعم من النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها في الخارج- الصراع التاريخي الهوياتي بين "أنصار الدولة المدنية" والقوى الرجعية والظلامية المهددة للنمط المجتمعي التونسي، أي كل القوى الإسلامية القانونية وغير القانونية، بل كل القوى الراديكالية المناهضة للمنظومة القديمة مثل رابطات حماية الثورة.
بحكم ضعف الحقل السياسي وهشاشة أغلب مكوناته "الحداثية" -بعد دخول الإسلاميين إلى المشهد السياسي وما مثله هذا الحدث من اختلال جذري في توازنات المنظومة القديمة- اعتبر الاتحاد نفسه حليفا استراتيجيا لكل التشكيلات السياسية والمدنية التي تطرح نفسها بالتعارض مع الإسلاميين
لقد استطاعت المركزية النقابية أن تعوّض الفراغ الذي تركه الحزب الحاكم زمن المخلوع، واستطاعت أن تحميَ أغلب مكونات المنظومة القديمة بدعوى التصدي لمشروع حركة النهضة الذي يهدف إلى "أخونة الدولة" واختراق أجهزتها ومنظماتها النقابية والمدنية. وقد كان النجاح الأكبر الذي حققته تلك المركزية النقابية هو إخراج نفسها من مسار "الانتقال الديمقراطي" سواء في بعده السياسي (باعتبارها ذات دور سياسي يتجاوز المستوى المطلبي المحض)، أو في بعده الاقتصادي (باعتبارها شريكا اجتماعيا أساسيا للسلطة وفاعلا في تحديد خياراتها أو سياساتها الاقتصادية الكبرى). وهو ما جعلها كيانا موازيا للدولة، أو على الأقل خارج قدرتها على المراقبة (انتفاء القدرة على مراقبة الوضع المالي للاتحاد رغم كل الأحكام القضائية المرتبطة بالحق في النفاذ إلى المعلومة) والعقاب (تعذر معاقبة أي نقابي متورط في قضايا فساد حتى تحول العمل النقابي إلى "حصانة" أعظم من الحصانة القضائية والبرلمانية).
خلال 23 عاما من حكم المخلوع والعائلات المافيوزية، وخلال الاحتجاجات التي عرفتها تونس بين 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/ يناير 2011 وسقط فيها عشرات القتلى والجرحى، لم تجد المركزية النقابية سببا كافيا لإعلان الإضراب العام والتمرد -ولو مؤقتا- على النظام الحاكم. ولكن تلك المركزية وجدت في عهد "الترويكا" ما يكفى لإعلان أكثر من إضراب عام، بل وجدت في أول تجربة للحكم التشاركي السلمي بين الإسلاميين والعلمانيين ما يوجب إسقاطها عبر "حوار وطني"؛ كان ورثة المنظومة القديمة هم أكبر المستفيدين منه، بدءا من حكومة التكنوقراط الانتقالية (أي حكومة طفل فرنسا المدلل وراعي مصالحها السيد مهدي جمعة) وانتهاء بفوز نداء تونس (النسخة المنقحة من التجمع الدستوري المنحلّ) في انتخابات 2014 الرئاسية والبرلمانية.
بحكم سيطرة المنظومة القديمة على الحكم خلال عهد السيد الباجي قائد السبسي -ورغم سياسة التوافق مع حركة النهضة- كانت المركزية النقابية عاجزة عن الدفع بخطابها نحو التصعيد الأقصى ضد المنظومة الحاكمة، ولكنها بقيت محافظة على خطابها الصدامي ضد حركة النهضة تحديدا.
ما زالت المركزية النقابية إلى الآن تستعمل مفهوم "الاختراق" لضرب أي إعادة هندسة للمشهد النقابي أو حتى لأجهزة الدولة المدنية والحاملة للسلاح. ولذلك لم تُخف المركزية النقابية مساندتها لكل الخطابات الرافضة للتوافق
فالمركزية النقابية تتماهى مع المرحوم قائد السبسي خلال حملته الانتخابية في جملته الشهيرة "نحن والنهضة خطان متوازيان لا يلتقيان"، ولا يمكن أن تتماهى معه في منطق التوافق، لا لأنه منطق يعيد تدوير رموز الفساد ويمنع تفكيك منظومته التشريعية، بل لأنه منطق يتعارض مع أيديولوجيا الاتحاد التي تعتبر إدارة منظومة الحكم مسألة "حداثية" صرفا.
وما زالت المركزية النقابية إلى الآن تستعمل مفهوم "الاختراق" لضرب أي إعادة هندسة للمشهد النقابي أو حتى لأجهزة الدولة المدنية والحاملة للسلاح. ولذلك لم تُخف المركزية النقابية مساندتها لكل الخطابات الرافضة للتوافق والمنشقة عن نداء تونس، كما لم تتردد في مساندة أحد رموز المنظومة القديمة خلال الانتخابات الرئاسية سنة 2019، ألا وهو السيد عبد الكريم الزبيدي، الأمر الذي أكده السيد الأسعد اليعقوبي القيادي النقابي في قطاع التعليم.
رغم أن السيد قيس سعيد لم يكن هو مرشح المركزية النقابية وخيارها الأصلي، ورغم قيام مشروعه على إلغاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية، فإن قيادة الاتحاد وجدت فيه حليفا قويا لمواصلة نهج "الانقلاب" على الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع وإعادة هندسة المشهد السياسي بالقوة
رغم أن السيد
قيس سعيد لم يكن هو مرشح المركزية النقابية وخيارها الأصلي، ورغم قيام مشروعه على إلغاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة المهيمنة على
الديمقراطية التمثيلية، فإن قيادة الاتحاد وجدت فيه حليفا قويا لمواصلة نهج "الانقلاب" على الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع وإعادة هندسة المشهد السياسي بالقوة. ولذلك لم يتردد الاتحاد في إسناد الرئيس عند كل نزاع بينه وبين مجلس النواب، كما لم يتردد في الاعتراف بسلطته التحكيمية عند الاختلاف في تأويل فصول الدستور، كما إن الاتحاد لم يعارض محاولات الرئيس لتحويل النظام البرلماني المعدل إلى نظام رئاسي واقعيا. ولكن الالتقاء الموضوعي بين الاتحاد والرئيس لا يعني البتة التماهي بينهما أو تعبيرهما عن مشروعين سياسيين مختلفين.
إن المركزية النقابية هي في الحقيقة "حزب الدولة العميقة" أو خيارها الأمثل عندما تحتاج إلى صناعة الحزب السياسي الراعي لمصالحها أو عندما يضعف ذلك الحزب ويتشقق -كما هو حال نداء تونس- أو حتى عندما تحتاج إلى ابتزاز/ تدجين الوافد الجديد على الحقل السياسي القانوني، أي حركة النهضة. فبتوظيف سردية "الدور الوطني للاتحاد" استطاعت المركزية النقابية أن تلعب دورا سياسيا جوهريا كلما احتاجت الدولة العميقة لذلك، وهو دور يتمدد ويتقلص تبعا للسياقات.
وقد احتاج سياق "تصحيح المسار" إلى دعم الاتحاد، ولكنّ الدعم لم يكن غير مشروط، بحكم أنه لم يكن دعما لمشروع الرئيس وإنما هو دعم لمسار سياسي تريد الدولة العميقة أن توظفه لإعادة هندسة المشهد السياسي دون أن تفقد هيمنتها عليه عبر واجهاتها الحزبية والنقابية والمدنية. ولكنّ إصرار الرئيس على تنزيل مشروعه السياسي وتفعيل خارطة طريقه دون أي حوار مع "أنصار 25 تموز/ يوليو"، وضع المركزية النقابية والكثير من "القوى الانقلابية" في حرج كبير، وهو ما تعكسه قرارات الهيئة الإدارية الأخيرة للاتحاد.
لو أردنا تلخيص
قرارات الهيئة الإدارية للاتحاد لقلنا إنها نوع من التصعيد "اللين"، أو نوع من تعميق المسافة النقدية من الرئيس دون السعي إلى القطيعة معه أو الالتقاء مع خصومه. وقد يغرينا هذا الفهم بمجاراة الأمين العام لاتحاد الشغل في أن طرح المركزية النقابية يُمثل "طريقا ثالثا" للخروج من الأزمة السياسية الحالية، ولكنّ الحقيقة هي أن الاتحاد يطرح حوارا وطنيا لا يغادر منطق "الانقلاب" ولا يتسع إلا لحلفائه الموضوعيين. وهو لا يرفض مشروع الرئيس، ولكنه يرفض أن يحضر في حوار استشاري، وأن يقصي الحوارُ "القوى الديمقراطية" السياسية، وأن يكون تحت سقف مخرجات الاستشارة الإلكترونية. إننا أمام اعتراض على طريقة إدارة "الانقلاب" والتأسيس للجمهورية "الثانية"، ولسنا أمام اعتراض على الانقلاب في ذاته من جهتي الشرعية والمشروعية.
يعلم الاتحاد أن مشاركته في الحوار الوطني الاستشاري ستضرب قيمته الاعتبارية لأنه سيكون مجرد ملحق وظيفي بمشروع الرئيس، كما أن إمضاءه على الإملاءات الاقتصادية التي تفرضها الجهات المانحة سيفقد علة وجوده ذاتها. وهو أمر سيجعلنا في الأيام القادمة أمام "صراع وجودي"
كنا في
مقالنا في الأسبوع الماضي قد رجّحنا أن يكون الصراع الأساسي في المرحلة المقبلة بين الرئيس والاتحاد العام التونسي للشغل، وقد جاءت مخرجات الهيئة الإدارية للاتحاد لتؤكد أن المواجهة بين الرئيس والمركزية النقابية أمر لا مفر منه. فالرئيس لا يمكن أن يضمن نجاح مشروعه إلا بضرب كل القوى التي يمكن أن تعيق الاتفاق مع الجهات المانحة أو تعمل على إفشالها. كما أن مركزة السلطة -حسب المنطق الرئاسي الراسخ في الزعاماتية- لن تقبل بوجود شريك اجتماعي قوي، بل تفرض تدجينه وإعادته إلى دوره التقليدي زمن المخلوع (رفع التحديات مع السلطة وشرعنة سياساتها).
يعلم الاتحاد جيدا أن تمرير مشروع الرئيس و"قتل الأحزاب" لن ينتهيَ إلا بقتل كل الأجسام الوسيطة أو على الأقل تدجينها، وهو ما يعني خسارة الاتحاد لحلفائه في المنتظم السياسي (أما باقي الأحزاب فلن يعارض تهميشها أو حتى حلها). كما يعلم الاتحاد أن مشاركته في
الحوار الوطني الاستشاري ستضرب قيمته الاعتبارية لأنه سيكون مجرد ملحق وظيفي بمشروع الرئيس، كما أن إمضاءه على الإملاءات الاقتصادية التي تفرضها الجهات المانحة سيفقد علة وجوده ذاتها. وهو أمر سيجعلنا في الأيام القادمة أمام "صراع وجودي"، جديد في صورة رفض الرئيس مراجعة خارطة طريقه ومواصلة انفراده بإدارة حالة الاستثناء والتحكم في مخرجاتها دون إشراك القوى الانقلابية الأخرى بقيادة المركزية النقابية.
هل يمكن لجبهة الخلاص الوطني -بتركيبتها الحالية ومنطقها المهادن للاتحاد ولأغلب القوى الانقلابية- أن تكون طريقا ثالثا، أم إنها تحتاج إلى الانفصال جذريا عن منطق التوافق المرفوض شعبيا لتستعيد ثقة الشارع في الديمقراطية وفي الأجسام الوسيطة؟
بناء على ما تقدم، فإننا نجد أنفسنا أمام الأسئلة التالية التي ستحدد إجابة الفاعلين الجماعيين عنها المشهد العام في المرحلة المقبلة: هل يمكن للاتحاد -مهما بلغ خلافه الحالي مع الرئيس- أن يكون شريكا اجتماعيا موثوقا في أي مشروع سياسي يهدف إلى تجاوز منطقي التوافق والانقلاب على حد سواء؟ أي هل يمكن للاتحاد الذي كان وما زال ثابتا بنيويا في أي مشروع انقلابي على الانتقال الديمقراطي؛ أن يكون حليفا لأي مشروع مواطني يهدف إلى بناء المشترك الوطني أو الكلمة السواء، بعيدا عن المنظومة القديمة ومصالح نواتها الصلبة وحلفائها الإقليميين والدوليين؟
هل يمكن لجبهة الخلاص الوطني -بتركيبتها الحالية ومنطقها المهادن للاتحاد ولأغلب القوى الانقلابية- أن تكون طريقا ثالثا، أم إنها تحتاج إلى الانفصال جذريا عن منطق التوافق المرفوض شعبيا لتستعيد ثقة الشارع في الديمقراطية وفي الأجسام الوسيطة؟ كيف يمكن الاستفادة من الصراع بين الرئيس والاتحاد دون فتح الباب أمام إعادة تدوير التوافق ورموزه؟ وإلى أي حد يتحكم الفاعلون المحليون في مخرجات الصراع، والحال أننا في بلد يفتقد إلى كل مقومات السيادة رغم كل الادعاءات والمزايدات المتغنية باستقلالية القرار؟
twitter.com/adel_arabi21