طلبت
إسرائيل الاثنين الماضي من رعاياها عدم السفر إلى إسطنبول، وممن يقضون عطلاتهم فيها
مغادرتها على الفور خاصة الضباط والجنود منهم، لوجود أخطار وتهديدات أمنية جدية تستهدفهم من قبل مجموعات تابعة للحرس
الإيراني. وحسب وسائل الإعلام العبرية، فقد شاركت الحكومة الإسرائيلية السلطات التركية المعلومات والمعطيات المتوفرة لديها، بينما بدا لافتاً أن التحذيرات الإسرائيلية لم تتضمن الطلب من مواطنيها عدم السفر إلى
تركيا بشكل عام، مع إبقاء الرحلات الجوية إلى مختلف المدن التركية كما هي بما فيها إسطنبول نفسها.
بداية، لا بد من الإشارة إلى قاعدة منهجية مهمة مفادها أن متابعة الإعلام الإسرائيلي والاهتمام بما ينشر هناك لا تعني بالضرورة التأثر بكل ما يكتب مع أخذه على محمل الجد بالطبع، ولكن على قاعدة الشك والتمحيص. بناء عليه، لا شك أننا أمام تحذيرات رسمية صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية وما يسمى مكتب مكافحة الإرهاب التابع لرئاسة الوزراء، ما يعني أن ثمة شيئا حصل أو يحصل، خاصة مع التأكيد الرسمي على اطلاع الحكومة التركية وسلطاتها المعنية على المعطيات المتوفرة لديها.
مبدئياً، ما كانت إسرائيل لتفتعل مشكلة كبرى مع تركيا على أبواب الموسم السياحي الواعد دون وجود قرائن وشواهد جدية وملموسة لديها. لكن الطبع غلب التطبع كما هو الحال دائماً في الدولة العبرية، حيث سعت لتضخيم التهديدات الإيرانية واستثمارها إلى أبعد مدى سياسياً وإعلامياً وأمنياً، بما في ذلك الحرص على التعاون والتنسيق الأمني مع تركيا ولو في هذا الملف فقط، وفي نفس الوقت الحذر من المس بالعلاقات السياسية والاقتصادية المتنامية معها.
سعت لتضخيم التهديدات الإيرانية واستثمارها إلى أبعد مدى سياسياً وإعلامياً وأمنياً، بما في ذلك الحرص على التعاون والتنسيق الأمني مع تركيا ولو في هذا الملف فقط، وفي نفس الوقت الحذر من المس بالعلاقات السياسية والاقتصادية المتنامية معها
ومن هنا سعت إسرائيل ولا شك إلى شيطنة إيران واستغلال ممارساتها لتصوير نفسها ضحية، ولفت الانتباه عن ممارساتها هي وانتهاكاتها المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.
أما بالنسبة للتهديدات الإيرانية ومع أخذ احتمال التضخيم بعين الاعتبار، لكن لا يمكن استبعاد احتمال وجودها فعلاً خاصة أنها تتساوق مع الوقائع على الأرض، كما السوابق الإيرانية في ملاحقة واستهداف معارضين ومواطنين إسرائيليين على الأراضي التركية.
في هذا الصدد تمكن الإشارة إلى اغتيال المعارض الإيراني الضابط السابق بالحرس محسن ورد نجاني في إسطنبول في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، حيث ألقت السلطات التركية القبض بالفعل على المنفذين وهم رجال استخبارات وأعضاء في العالم السفلي، وقدمتهم لينالوا جزاءهم العاجل في ساحات القضاء.
ومنذ أسابيع فقط حاولت إيران اغتيال المواطن التركي الإسرائيلي رجل الأعمال يائير جيلر، وكما قالت وسائل إعلامية محلية فقد ضبطت السلطات التركية المجموعة الإيرانية متلبسة، وضمت كما العادة عناصر استخبارات وأعضاء في عصابات التهريب والمخدرات.
رغم الصخب الإسرائيلي إلا أن تركيا تعاطت بشكل هادئ ومسؤول مع القضية ومع حرص على الابتعاد عن الصخب الإعلامي، أصدرت وزارة الخارجية بياناً هادئاً ومقتضباً لم تشر فيه إلى إسرائيل وسياحها، وأكدت فيه على أن تركيا آمنة وأنها تحارب الإرهاب، والنتائج ملموسة وظاهرة للعيان، مع التأكيد على أنها لا تميز بين التنظيمات والجماعات الإرهابية، في إشارة إلى النفاق الغربي والإسرائيلي والتمييز بين التنظيمات الإرهابية، بينما تركيا وحدها تحاربها دون تمييز سواء أكانت داعش أو بي كا كا، أو حتى مجموعات إيرانية تسعى إلى استهداف أمن وسيادة البلاد وتنفيذ عمليات إرهابية على أراضيها.
تجب الإشارة كذلك إلى سعي تركيا الدائم إلى التعاطي بمسؤولية وحكمة، وعدم افتعال مشاكل مع الجارة إيران والحفاظ على علاقات جيدة معها، إلا أن هذه الأخيرة لا تتصرف بنفس الذهنية، وهي حاولت فعلاً استهداف حياة لاجئين وسياح يقيمون بشكل شرعي في البلاد، والتصرّف بذهنية أقرب إلى العصابات، مستفيدة في ذلك من فكرة وجود جهات وأجهزة موازية يمكن إلقاء المسؤولية عليها من قبل السلطات الإيرانية الرسمية.
تسعى إيران كذلك عبر محاولات الانتقام إلى التأثير سلباً على العلاقات التركية الإسرائيلية التي تسير في منحى التحسن والتهدئة، خاصة بعد الزيارات المتبادلة الأخيرة
تجاه تركيا، يمكن أيضاً متابعة اللغة العدائية الحاقدة والموتورة للحشد الشعبي الإعلامي الإيراني الناطق باللغة العربية، بينما يتصرف الإعلام التركي بمهنية ومسؤولية أيضا تجاه إيران وأزماتها ومشاكلها التي لا تنتهي.
في الملف محل الاهتمام قامت إسرائيل بسلسلة اغتيال لضباط وعلماء إيرانيين (سبعة تقريباً خلال أقل من أسبوعين)، وأكثر من ذلك وجهت ضربات بطائرات مسيرة إلى أهداف ومواقع حيوية ومنشآت نووية ومراكز أبحاث علمية داخل إيران؛ التي اكتفت بتصعيد الخطاب الدعائي المعتاد تجاه الدولة العبرية.
وكما يقال في الروايات الإسرائيلية المنطقية والمعقولة بشكل عام، وبعد فشل إيران في استهداف ضباط ورجال أعمال كبار باتت تبحث عن الانتقام من أي مواطن إسرائيلي، حتى في تركيا الجارة والصديقة وغير المعادية، والتي لم تكن يوماً عضواً في محاولات استهداف وإضعاف إيران رغم السياسات العدائية ضدها على طول المنطقة وعرضها.
تسعى إيران كذلك عبر محاولات الانتقام إلى التأثير سلباً على العلاقات التركية الإسرائيلية التي تسير في منحى التحسن والتهدئة، خاصة بعد الزيارات المتبادلة الأخيرة، مع الانتباه إلى أن تركيا تقيم علاقات رسمية وعلنية مع إسرائيل، والعلاقات لا ولن تصل إلى حد التحالف أو تجاوز القضية الفلسطينية المركزية لتركيا وسياساتها الخارجية، ولا تستهدف إيران أو أي دول أخرى، كما هو الحال مثلاً مع اليونان وقبرص اللتين دخلتا في تحالف علني مع إسرائيل. وهنا تمكن العودة أيضاً إلى الآلة الإعلامية الإيرانية التي لا تتعاطى بذهنية موتورة وحاقدة مع اليونان وقبرص ولا حتى مع نظام عبد الفتاح السيسي المتواطئ مع إسرائيل، كما فعلت وتفعل تجاه تركيا.
يمكن الاستنتاج أن ما نشر ورغم التضخيم الإسرائيلي إلا أن ثمة شيئا صحيحا وواقعيا في الأخبار المتداولة. وإيران وبعد العجز عن الرد على إسرائيل مباشرة أو حتى عبر العواصم والحواضر العربية التي تتبجح باحتلالها، سعت للانتقام عبر أهداف سهلة من مقيمين وسياح في تركيا
في النهاية وبناء على المعطيات السابقة مجتمعة، يمكن الاستنتاج أن ما نشر ورغم التضخيم الإسرائيلي إلا أن ثمة شيئا صحيحا وواقعيا في الأخبار المتداولة. وإيران وبعد العجز عن الرد على إسرائيل مباشرة أو حتى عبر العواصم والحواضر العربية التي تتبجح باحتلالها، سعت للانتقام عبر أهداف سهلة من مقيمين وسياح في تركيا في السياق، والنيل سلباً من سيادتها وأمنها وهيبتها واقتصادها أيضاً على أعتاب موسم سياحي واعد والتعافي من آثار جائحة كورونا، وعودة العجلة الاقتصادية للدوران كما على أبواب استحقاق انتخابي قد يكون حاسماً لمستقبل البلاد.
في المقابل، إسرائيل تصرفت بشكل مسؤول نسبياً تجاه تركيا -رغم طبعها الذي يغلب التطبع- أكثر من إيران نفسها وحاولت عدم التأثير على العلاقة وعلى سمعة البلد واستقرارها وأمنها، وعدم وقف خطوط الطيران وعدم الطلب من كل السياح المغادرة أو عدم التوجه إلى مدن ومنتجعات أخرى خارج إسطنبول، واستخدام الملف دعائياً ضد إيران لكن مع حذر وحرص في السياق التركي. وعليه من المستهجن هنا أن نرى إسرائيل تحاول التصرف بشكل واقعي ومسؤول وعلى غير عادتها، بينما إيران الجارة المسلمة لا تراعي تلك الحساسيات ولا حتى مبادئ الصداقة وحسن الجوار مع تركيا.