تقدم
الهند مفارقة استثنائية: طوائف دينية متبعثرة ومنفصلة بعضها عن بعض في كثير من المناطق (بوذيون، هندوس، سيخ، مسلمون، يانيون، زرادشتيون، مسيحيون، يهود، لاأدريون، ملاحدة)، لغات هائلة، طبقات عديدة مغلقة وذات تراتبية استعبادية، ومع ذلك لا يمكن القول؛ إن التاريخ الهندي قائم على العنف الطائفي، فهذه محطات قليلة فيه.
يحاجج عالم الاجتماع الأمريكي- الهندي أمارتيا سن بأن ثمة تاريخا طويلا للتراث الحجاجي في الهند، أدى دورا في التسامح والقبول الديني بين الطوائف، فتقليد النقاش العام وثيق الارتباط عموما بجذور الديمقراطية في العالم، إلا أن هذا الارتباط العام كان استثنائي التأثير في الهند، لأن هذه الأخيرة كانت استثنائية الحظ في امتلاك تراث عريق من النقاش العام على قاعدة التسامح مع الابتداع والهرطقة.
ارتبطت
العلمانية الهندية باستراتيجيات السلطات الحاكمة عبر التاريخ، ففي عهد الإمبراطور البوذي آشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد، جرت أول عملية سياسية منظمة للحوار عبر الأديان بغية تحقيق التفاهم والتسامح المشترك.
ثم حدث تعميق وترسيخ لهذه السياسة العلمانية في عهد الإمبراطور المسلم أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر، خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر.
السياسات العلمانية لم ترتبط بمنظومة دستورية وقانونية، ولا بوعي سياسي يخترق المجتمع، حيث لم تشهد الهند ثورة إصلاحية للدين كما في أوروبا، ولم تنشأ طبقة مثقفة معادية للدين كما في أوروبا، بل نشأت العلمانية الهندية من ضرورات الواقع
لكن، هذه السياسات العلمانية لم ترتبط بمنظومة دستورية وقانونية، ولا بوعي سياسي يخترق المجتمع، حيث لم تشهد الهند ثورة إصلاحية للدين كما في أوروبا، ولم تنشأ طبقة مثقفة معادية للدين كما في أوروبا، بل نشأت العلمانية الهندية من ضرورات الواقع، ولهذا بقيت قائمة على مبدأ القبول وليس على مبدأ الاعتراف، وكان هذا سببا رئيسيا في ضعفها.
عن هذا الواقع، كتب بي آر أمبدكار، رئيس اللجنة المخولة كتابة الدستور في الهند: "نحن مدعوون إلى ولوج باب حياة حافلة بالتناقضات، سنكون متمتعين بالمساواة، أما في الحياة الاجتماعية والاقتصادية فسنكون رازحين تحت وطأة اللا مساواة".
خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تعرضت العلمانية الهندية لنقد قاس من جانب ناشطي الحركة
الهندوسية السياسيين، وفي حين أن أجزاء من ذلك الهجوم مستند إلى المطالبة بمكانة خاصة للهندوسية في الكيان السياسي الهندي، فإن جزءا آخر من النقد اتخذ شكل ادعاء بأن الدستور والممارسة السياسية الهندية لم يتحليا بما يكفي بالحياد، وقد أتاحا معاملة خاصة للمسلمين، على صعيد استثناء بعض الأعراف الإسلامية، كإجراءات الزواج على سبيل المثال.
مع صعود حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي المتطرف في تسعينيات القرن الماضي، بدأت تظهر صيغ راديكالية
تجاه المسلمين، وبدأت عملية إعادة تعريف للديمقراطية والعلمانية بتأثير من "الهندتوفا"، التي تعني من هو الهندوسي؟ وصارت عنوانا لكراس كتبه قومي هندوسي متعصب هو فيناياك دامودار سافاركار عام 1923.
مع صعود حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي المتطرف في تسعينيات القرن الماضي، بدأت تظهر صيغ راديكالية تجاه المسلمين، وبدأت عملية إعادة تعريف للديمقراطية والعلمانية بتأثير من "الهندتوفا"، التي تعني من هو الهندوسي؟
شكل هذا الكراس القاعدة الأيديولوجية للنزعة القومية الهندوسية بعد الاستقلال، وإن ظلت ضعيفة في تأثيرها الاجتماعي والسياسي في مرحلة حكم نهرو.
اعتبر حزب "بهاراتيا جاناتا" أن الهوية الهندوسية هي الهوية الهندية، ليس بسبب كون أغلبية الشعب من الهندوس فحسب، بل لأن التاريخ السياسي والثقافي الهندي المغرق في القدم هو تاريخ هندوسي (الفيدات).
وقد ترتب على ذلك، اعتبار أن الديمقراطية هي آلية لحكم الأكثرية، وأن العلمانية لا تعني مساواة الطوائف الدينية فيما بينها، وإنما إعطاء الحقوق وفق الوزن الديمغرافي.
ومن المفارقات التاريخية، أن الدعم القوي لفكرة الهندوسية القومية، يأتي من الشتات الهندي في المغترب، لا سيما في أمريكا الشمالية وأوروبا، من أولئك الذين يعلقون أهمية كبرى على امتلاك القدرة على الاحتفاظ بالرابطة القومية.
عرف عالم الاجتماع الفرنسي الشهير ألان تورين الديمقراطية بأنها حكم الأكثرية، ولكن هذه الأكثرية لا تدوم، وقد تتحول في المستقبل إلى أقلية، وتنشأ سلطة جديدة تدافع عن مصالحها الخاصة، لكنها لا تستطيع إلغاء الحقوق الأساسية للأقلية.
انطبق هذا التعريف على الديمقراطية الهندية في مرحلة ما بعد الاستقلال 1947 وحتى وفاة جواهر لال نهرو عام 1964، فقد كانت ديمقراطية مستقرة، لم يعمد من خلالها حزب المؤتمر الحاكم بتمييز الهندوس عن غيرهم من الأقليات الدينية، بل قدم رؤية علمانية داعمة للديمقراطية قائمة على حياد الدولة تجاه الأديان، وعلى احترام خصوصيات كل جماعة دينية.
بعد وفاة نهرو عام 1964، ولاعتبارات متعلقة بالسلطة، بدأ الخطاب السياسي للنخب الحاكمة ينتقل من الخط القومي الوحدوي والاقتصادي التنموي إلى الخط القومي- الطائفي، وقد ترتب على ذلك صراع حاد بين الهندوس والسيخ، انتهى بتوجيه ضربة قاسية للأخيرين، قبل أن يبدأ التوتر بين الهندوس والمسلمين في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وكانت أحداث مدينة غوجارات مؤشرا على هذا التحول.
مع تسلم مودي السلطة عام 2014، تعمقت السياسات الطائفية، خصوصا تجاه المسلمين، الذين بدؤوا يشعرون بأنهم يعيشون بغيتو محاط بالهندوس الكارهين لهم
استمرت السياسات الطائفية لحزب "بهاراتيا جاناتا" خلال العقود الثلاثة الأخيرة، الأمر الذي إلى تراجع تصنيف الهند على السلم الديمقراطي، فقد خفضت منظمة فريدوم هاوس (بيت الحرية) عام 2006 تصنيف الهند من دولة حرة إلى شبه حرة، أما منظمة " Vـ Dem"، فقالت؛ إن الهند لم تعد مؤهلة لتصنف كدولة ذات نظام ديمقراطي انتخابي، بل نظام سلطوي انتخابي.
مع تسلم
مودي السلطة عام 2014، تعمقت
السياسات الطائفية، خصوصا تجاه
المسلمين، الذين بدؤوا يشعرون بأنهم يعيشون بغيتو محاط بالهندوس الكارهين لهم.
ولذلك، لم تكن تصريحات مسؤولين بارزين من الحزب الحاكم الشهر الماضي ضد المسلمين، تعبيرا عن حالة فردية، بقدر ما هي انعكاس لواقع سياسي يسعى إلى توجيه ضربة للمجتمع المسلم وتجريده من أدوات القوة عبر سلسلة من القوانين.