أدّت منظمة التحرير على مدار عقود دورا مهما في قيادة الفلسطينيين، وتوجيههم وتمثيلهم، والتحدث باسمهم، ثم بدأ ذلك الدور بالتضاؤل رويدا رويدا، مع تخليها أو تخلي قيادتها عن أهم أدوارها، وهو مقاومة الاحتلال، والعمل على تحرير فلسطين كاملة غير منقوصة، من البحر إلى النهر، الأمر الذي دفع الفلسطينيين للبحث عن بدائل تحقق لهم تلك الحاجة الملحة، وهي مقاومة العدو، فتصاعدت قوة الفصائل المقاومة، وباتت تمثل خيارا مقاوما سياسيا وعسكريا واجتماعيا، لجزء كبير من الجماهير الفلسطينية، التي عبّرت عن ذلك بانخراطها في تلك الفصائل أو تأييدها، وانتخابها والمشاركة في فعالياتها الجماهيرية.
لكن تلك الفصائل بالإضافة لفصائل المنظمة التي ظلت مصرة على مسارها المقاوم، لم تنجح في تشكيل بديل ملائم يعبّر عن الكل الفلسطيني، ويقوده ويمثله، بل ظلت مجرد رافضة لأوسلو، وما ترتب عليها من التزامات انحدرت بالسلطة الفلسطينية إلى الدرك الأسفل من التنسيق الأمني، الذي لم يعد سلوكا عاديا من وجهة نظر مناصريه فحسب، بل بات ضروريا وملحّا.
هذا الرفض لا يصلح برنامجا سياسيا، بل كان لا بد من مبادرة تتقدم خطوات إلى الأمام، تاركة الآخرين في خانة رد الفعل، لكن تلك المبادرة لم تأتِ حتى اللحظة، وظل كثير من الفلسطينيين يناشدون السلطة وقيادتها، وينتظرون تغيرها، وهو ضرب من المستحيل. فالسلطة لن تتغير، وقيادتها لن تتخلى يوما عن مشروع التنسيق الأمني، الذي لن ينتهي إلا بانتهاء السلطة نفسها، وإعادة بناء سلطة وطنية، يقوم جوهر وجودها على مقاومة الاحتلال، وحماية المقاومة.
مع تعطيل رئيس السلطة محمود عباس لعجلة الانتخابات التشريعية الأخيرة، تصاعد الحديث عن ضرورة إيجاد قيادة بديلة، وكان أن اجتمعت بعض القوائم المرشحة على أمل أن تُشكل تجمعا يطرح نفسه كممثل للشعب الفلسطيني، أو على الأقل كطليعة متقدمة تضغط على السلطة لتغيير موقفها، لكن ذلك لم ينجح لاعتبارات كثيرة، أهمها قوة سيطرة الفصائل على المشهد الفلسطيني، وضعف الإمكانات المالية والتنظيمية لكثير من تلك القوائم.
ثم تجدد الحديث في هذه القضية مع اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الذي استثنى الفصائل الكبيرة من خارج المنظمة، كحماس والجهاد الإسلامي، وقاطعته الجبهة الشعبية التي تعد ثاني أكبر الفصائل في المنظمة، والمبادرة الوطنية، وانسحب منه حزب الشعب احتجاجا، وقد تطور الأمر لاحقا، وصولا لتعيين حسين الشيخ أمينا لسر المنظمة، دون أن يعرف أحد آلية هذا الاختيار، فيما راجت الأحاديث عن أن تلك أول خطوة في ترتيبات ما بعد عباس.
مع ذلك الاجتماع الذي لم يكن حريصا على حشد كل الفلسطينيين في رحابه، تصاعدت مظاهر تحالف فصائلي جديد يجمع بين حماس، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، وقد ظهرت ملامحه في عدد من الانتخابات النقابية، وبدأ البعض بالحديث عن جبهة وطنية تهدف لتحرير منظمة التحرير من مختطفيها الذين يحتكرون صناعة قرارها، دون أي شرعية تمنحهم هذا الحق، ودون أي تمثيل حقيقي للجماهير الفلسطينية في الداخل والخارج.
ويمكن لهذه الجبهة أن تتوسع لتضم فصائل جديدة، أو تيارات منشقة عن فصائل أخرى مثل التيار الإصلاحي الذي يقوده محمد دحلان، كما يمكن أن تنضم إليها مكونات شعبية غير فصائلية، مثل المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وهو ما يضع قيادة السلطة أمام حرج كبير، ويدفعها -إن كان لديها من الحيوية ما يؤهلها لاستيعاب ما يجري حولها- لمحاولة التجاوب مع المطالبات المتعددة بضرورة التغيير، والعودة للاحتكام إلى الشعب الفلسطيني.
وأتصور -قياسا على سلوك قيادة السلطة تجاه الغاضبين من أبناء فتح كدحلان وناصر القدوة- أنها لن تتجاوب مع ذلك، وستصر على موقفها، وهو ما يضع الفلسطينيين جميعا أمام مسؤولياتهم الكبيرة بضرورة العمل على تشكيل قيادة حقيقية تقود جماهير الشعب الفلسطيني، على أن تكون قيادة جماعية تمثل التيارات الرئيسية كافة في الشعب الفلسطيني دون استثناء لأحد، في إطار مرحلة انتقالية تُمهد للوصول إلى انتخاب قيادة فلسطينية لائقة بتضحيات الفلسطينيين وتطلعاتهم.
قد يرى البعض أن هذا غير ممكن في الضفة؛ حيث تقمع السلطة أي حراك لا يعجبها، لكن هذه القيادة ستزعزع موقفها بشكل كبير، وقد تدفعها للتجاوب، أو التراجع قليلا لصالح احترام رغبات الشعب الفلسطيني أو قرارتها، وإذا لم تفعل سيتعزز الرفض الشعبي لها أكثر فأكثر. كما أن الواقع في الضفة لن يدوم إلى الأبد، فكثير من القراءات تشير إلى احتمالية حدوث تغيير في أي لحظة، والأصل أن نكون جاهزين لذلك التغيير مسبقا، بدلا من الركض وراءه بشكل متأخر.