هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
خلال أسرع محاكمة في تاريخ قضاء مصر "الشامخ" أُصدر الحكمُ بالإعدام شنقا على الشاب "محمد عادل" بجناية قتل الطالبة "نيّرة أشرف" ولم يكن ذلك تحقيقا للعدالة ولا نصرةً للحق بل كان استجابة سريعة وجرعة مسكّنة لحالة الهيجان الشعبي التي خلقها مقتل الطالبة في واحدة من أشدّ المآسي الإنسانية ألما وقسوة ذهب ضحيتها شابان من خيرة شباب مصر.
لا أحد يجرؤ اليوم على القول بأن القاتل نفسه ضحية من ضحايا توحش الدولة والمجتمع وأن ثقافة القابلية للاستبداد والقهر والظلم هي القاتل الحقيقي لكليهما.
تغيب كل أصوات الحكمة والتعقّل وسط حالة من سعار الجماعي وصرخات الثأر من قلب حفلات الدم التي يرقص فيها "إعلام العار العربي" طربا فلا صوت يعلو فوق حناجر القتل وخناجر الانتقام. هكذا ظهر صوت الشاب (القاتل) محمد عادل وسط قاعة المحكمة وعيناه مكحّلتان بزرقة لكمات الشرطة فلا أحد يهتم بما أوصل هذا الشاب العشريني إلى ارتكاب جريمته البشعة ولا أحد يريد أن يبحث في أصل الشرّ والتوحّش بما هو كائن ينبت ويعيش ويُسقى بماء الكراهية والفقر والكبت واليأس والنقمة الاجتماعية.
لم يكن موضوع مقال اليوم مخصصا للحديث عن ظاهرة إجتماعية تواصلية سلوكية شغلت الشارع العربي خلال الأيام الأخيرة لكنّ كثافة ردود الأفعال وتباينها داخل الشارع العربي أوجبت التوقف ولو لبرهة عندها. تنبني هذه القراءة على جملة من المسلمات المنهجية التي تسعى إلى منع الانزلاق التحليلي وتحدد المسار المخصص للتفكيك والتركيب والتأويل.
أوّل هذه المسلمات أنّ توحش الجرائم التي تنتشر اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي ليس جديدا بل هو ضارب في القدم داخل كل المجتمعات والأمم. وهو ما يدفع نحو المسلّمة الثانية التي جوهرها أنّ المجتمعات لم تتوحّش اليوم بل جذور التوحش وشروطه راسخة فيها ضاربة في أصل وجودها. أمّا المسلّمة الثالثة فتخص قدرة الوسائل الرقمية الجديدة وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي على تحويل الجريمة من حالة فردية خاصة إلى ظاهرة اجتماعية عامة. وتتلخص آخر المسلمّات في أن الشيطان الكامن وراء هذه الظواهر له محركات إعلامية ومحاضن ثقافية ومصاعد سلوكية جماعية تُحوّله من حالة الكمون والركود إلى حالة الفتك والافتراس.
تنصب هذه القراءة على خمس عيّنات من الجرائم التي هزّت الرأي العام في الدول التي حدثت فيها وخارجها وهي قضية الطالبة المصرية "نيّرة أشرف" والإعلامية المصرية "شيماء جمال" والطالبة الأردنية "إيمان إرشيد". أما الحالة الرابعة فتخص مقتل الفنان الجزائري "جمال بن إسماعيل" وتتمثل الحالة الخامسة في مقتل الشابة "رحمة لَحْمَر" في تونس. لا نبحث في أطوار الجريمة ومنسوب التوحش والرعب الذي يصاحبها بل تنصبّ القراءة أساسا على ظروف الجريمة ومحركاتها وخاصة ردود الأفعال حولها ونخص من ذلك ردود الفعل الرسمية للدولة والمجتمع.
تواجه هذه القراءة عراقيل كثيرة مثل التعسف في التصنيف أو الاستنطاق القاتِل لجوهر المعنى أو حتى قابلية الحوادث الاجتماعية لاستبطان حقيقة محركاتها الحضارية والقانونية والتربوية لكنّ ذلك لا يُعفي هذه الظواهر السلوكية المرضية من القابلية للمساءلة بحثا عن فهمٍ يحدّ من شروط تجددها وانتشارها ويفتح الباب أمام فهم أعمق من الإدانة والاستنكار.
الجريمة وآثارها
جريمة مقتل الطالبة "نيّرة أشرف" هي التي حازت على أعلى موجة من موجات التفاعل الاجتماعي في مصر وخارجها بسبب ما حفّ بها من وحشية في التنفيذ (الذبح في وضح النهار وأمام الجامعة) وما رافقها من حكايات عن عاشق متيّم حتى القتل. أما جريمة قتل الطالبة الأردنية "إيمان إرشيد" فهي لا تختلف عن الأولى بسبب حضور نفس الدوافع الشعورية المحفّزة على القتل وإن اختلفت الأداة. فالجريمتان نتيجة ليأس القاتل من الظفر بالضحية طوعا فانتهى به المطاف إلى التخلّص منها والتخلص من نفسه سواء بإطلاق النار على رأسه كما هو الحال في الجريمة الثانية أو بانتظار تنفيذ حكم الإعدام كما هو الحال في الجريمة الأولى.
أما مقتل الإعلامية "شيماء جمال" ودفن جثتها وتشويه جسدها بماء الكبريت فجريمة لا تقل بشاعة عن سابقتيْها لكنّ الجاني هنا ليس مجرما عاديا بل هو زوج الضحية وقاض شهير في مصر (حسب الرواية الرسمية طبعا). هذا المعطى الأساسي الذي يخص وظيفة الجاني (المتهم) والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها وطبيعة العلاقات التي يمتلكها داخل أجهزة السلطة هو الذي سيحدد نوعية ردود الأفعال على الجريمة بما فيها ردود الفعال الشعبية.
لن نُعفيَ "النخب العربية" من جريمة المشاركة في انهيار المجتمع وتآكل القيم وتردي أخلاق الفرد بعد أن كرّست عمرها في صراعات نظرية فلسفية جوفاء وتركت الطبقات الفقيرة التي خرجت من رحمها رهينة أفيون النظام من كرة القدم إلى الدراما الهابطة مرورا بحملات الحرب على القيم والأخلاق.
كان لمقتل الشاب الثلاثيني "جمال بن إسماعيل" في الجزائر أصيل مدينة مليانة وقع القنبلة النووية صيف 2021 بعد أن أحرق المتظاهرون الغاضبون من الحرائق المشتعلة جثته ونكلوا بها تنكيلا وحشيا. كانت الجموع المحيطة به (من جماعة "الماك" المصنفة إرهابية في الجزائر) في حالة من التخدير القاتل الذي وصل بها إلى التقاط الصور مع جثة متفحمة ولم يدافع أحد عن حقه في محاكمة عادلة. أثبتت التحقيقات بعد ذلك أن المجنيّ عليه بريء من تهمة حرق الغابات وأنه جاء إلى منطقة القبائل لمساعدة السكان في إخماد النيران فقتلوه حرقا. بل إن مصادر كثيرة تشير بأصابعها إلى عصابات النظام التي تقف وراء حرائق الغابات إلى اليوم في الجزائر حتى تستطيع تحويل صبغة الأرض من غابية إلى عقارية صالحة للبناء.
أما مقتل الشابة "رحمة لحمر" في تونس فقد طواه النسيان ولم يبق من أثر للجريمة إلا اجتهادات شخصية لمدوّنين قاموا بنشر مقاطع فيديو من مسرح الجريمة تفنّد الرواية الرسمية وتبرّئ المتهم (مراد) من جريمة القتل. لم يحتفل "إعلام العار" كما يسميه التونسيون بالجريمة كما احتفل بجريمة "لطفي نقض" و"شكري بلعيد" و"محمد البراهمي" لخلوّها من القابلية للتوظيف السياسي الرخيص. لكنّ مقاطع واضحة تثبت وجود عصابة من القتلة في سيارة معلومة كانوا يوجهون المتهم إلى مسرح الجريمة حتى يحمل وزرها وهو الفقير المعدم القادم من عمق الريف السحيق بحثا عن لقمة العيش. مصادر متقاطعة تؤكد أن أطرافا نافذة جدا وراء مقتل الفتاة الشابة التي يبدو أنها ضعت يدها على ملفات حساسة في الشركة التي تعمل فيها.
قراءة الجريمة وتوحش المجتمع
تبقى هذه الجرائم أمثلة نموذجية وهي بمثابة الشجرة التي تخفي وراءها آلاف الجرائم الأكثر توحشا ورعبا سواء كان ذلك في سياق اجتماعي مستقر أو في حالة الفوضى والحروب المشتعلة على طول البلاد العربية وعرضها. لكنها من جهة ثانية تسمح بقراءة خلفية التفاعلات التي أججتها سعيا للبحث عن السياقات والشروط الحقيقية التي تقف وراء هذه الظواهر المرضية.
كانت ردود الفعل الشعبية عن هذه الجرائم محكومة بالشرط العاطفي المتسامي عن الشرط العقلاني فالتضخيم الإعلامي للجريمة الذي هو أمر لا يقلل من بشاعتها كان حاسما في خلق حالة من التعاطف مع الضحية خاصة في حالة الطالبتين الأردنية والمصرية. فالجانيان في كلا الجريمتين قد نفذا في نفسيْهما حكم الإعدام سواء بالانتحار أو بالذهاب إلى المشنقة وهو الأمر الذي يجعل من الدافع العاطفي للجريمة موجَّها بحالة عارمة من اليأس. اليأس هنا هو الدافع الأساسي للجريمة وهو ما يشبه حالة الانتحار التي سبقتها هنا حادثة القتل في إطار من انعدام الوعي بها بعد أن صرّح قاتل الطالبة المصرية بأنه صار من متعاطي المخدرات في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ الجريمة. وهو الأمر الذي ينسحب على مقتل الطالبة الأردنية ويحيل على طبيعة العلاقات العاطفية في صفوف الطلبة بالجامعة والتي تكون في الغالب جمّاعة لأقصى درجات التطرّف العاطفي بحكم السنّ وبحكم المحيط الجامعي نفسه.
المتهم الشاب "محمد عادل" قاتلٌ مجرم لكنه ليس شيطانا مُسقطا من السماء كما يصوّره الإعلام المصري بل هو واحد من آلاف حالات اليأس الاجتماعي والتطرّف العاطفي والانكسار النفسي. لم يجد الشاب الفقير متنفسا آخر غير حالة من العشق اليتيم يجد فيها ذاته ويحقق حلمه بالحبّ والتماهي مع طرف لا يريده لأنه لا يمثل النموذج الاجتماعي الناجح في مجتمع طبقيّ تُسحق فيه الطبقات الفقيرة سحقا.
منْ من الشباب العربي لم يمرّ بحالة من الانكسار العاطفي التي تشبه السقوط من أعلى جبل شاهق بسبب غياب الثقافة الجنسية والتوعية التربوية والتوجيه الأخلاقي والتوازن الأسريّ ؟ من منّا لم يعشق يوما كائنا خرافيا صنعه خياله المكبوت وغذّته الدراما الهابطة فجعله محور الوجود الذي لا تستقيم الحياة بدونه قبل أن يفيق من كابوسه الجميل بصفعة أجمل؟
من جهة أخرى تبدو الحقيقة أكثر بشاعة حين نقرأ واقعة القاضي المجرم الذي قتل زوجته الإعلامية المصرية "شيماء جمال" والتي تذكّر بمقتل الفنانة "سوزان تميم" في دبي بعد أن برّأ القضاء المصري "الشامخ" القاتل ورجل الأعمال "هشام طلعت". لم تجيّش المنابر الإعلامية لسحل القاضي لكنها اكتفت بذكر الحروف الأولى من اسمه على خجل لتكشف أن المجتمع المصري مجتمعان وأن العدالة في هذا البلد كما في كل البلاد العربية عدالة قاتلة عرجاء لا تقوى إلا على الضعفاء.
لن تنهض هذه المجتمعات إلا من داخلها بعد أن تدرك أن القيم هي عماد الفرد والجماعة وأنّ العدل أساس العمران وأنّ التربية والتعليم هما الحصن الأخير أمام خناجر القتلة والمجرمين وأنّ أولّ شروط السلم الاجتماعي هو الإطاحة برأس الإجرام ومنظومته التي لا تعيش إلا داخل ثقافة الموت.
أما في حالة الجزائري "جمال بن إسماعيل" فالجريمة درس في توحّش الجموع وفي غياب الدولة وبؤس المجتمع الذي تحوّل بفعل تجريف الوعي وانعدام ثقافة العدالة إلى مجاميع من المتعطشين للدماء والانتقام من الأبرياء. لا أحد تحدّث عن الجذور العنصرية للجريمة لأنّ بن إسماعيل ليس من أبناء منطقة القبائل وهو العنصر المسكوت عنه في القضية التي يخشى النظام أن تكشف للعالم حجم الاحتقان الاجتماعي ومدي تغلغل الكراهية بين مكونات المجتمع بفعل سياسات النظام. وهو الذي لن يترك السلطة قبل أن يتركها بيد العصابات العنصرية والمليشيات المتقاتلة كما حدث في العراق وسوريا وليبيا.
في تونس كانت الضحية "رحمة لحمر" وكذلك المتهم (مراد) كبشيْ فداء لمنظومات الإجرام والنهب المتحكمة في مفاصل المجتمع والدولة سلطة وقضاء واقتصادا. فالنهب والخطف والسلب في وضح النهار صارت خبزا يوميا وكابوسا يؤرق أهل تونس وسكان أحيائها الفقيرة الذين أصبحوا في حالة من التوجس اليومي بسبب ارتفاع غير مسبوق لمعدلات الجريمة. صحيح أن هذه المظاهر مؤشر خطير على غياب السلم الاجتماعي بسبب ضعف الدولة وتواطئها مع المجرمين لكنها تكشف كذلك الانهيار الكبير في منظومة القيم المشتركة التي تعود هي الأخرى إلى انتشار الفقر والبطالة والانحراف بسبب انسداد الأفق وانعدام مصادر الرزق.
ليس من المصلحة الأنظمة الاستبدادية استتباب الأمن ولا سلامة المواطن ولا تحقيق العدل لأنّ هذه الأهداف تعني بداية نهاية المستبدّ فهو كيان لا يعيش إلا وسط الفوضى والتناحر الاجتماعي وانعدام الأمن حتى يعيش المواطن في حالة من الرعب المتواصلة. إن وجود الجريمة وتجار المخدرات وانتشار القتل والتوحّش و "البلطجة" جزء أصيل من وجود النظام نفسه حيث يتحوّل المجتمع إلى خطر على نفسه ولا يمكنه العيش إلا بوجود مستبدّ طاغية على هرم السلطة قادر على تحقيق عدلٍ لن يتحقّق يوما.
ستبقى مدرجات كرة القدم وحفلات الموسيقى والمخدرات والكحول المنافذ الوحيدة المسموح بها للتنفيس عن المكبوتات الفردية والجماعية ولن تبحث أنظمة الموت العربية عن إصلاح جذور الخلل بتغيير مناهج التعليم وتحصين الأطفال باكرا ضد مظاهر التطرّف والعنف.
لن نُعفيَ "النخب العربية" من جريمة المشاركة في انهيار المجتمع وتآكل القيم وتردي أخلاق الفرد بعد أن كرّست عمرها في صراعات نظرية فلسفية جوفاء وتركت الطبقات الفقيرة التي خرجت من رحمها رهينة أفيون النظام من كرة القدم إلى الدراما الهابطة مرورا بحملات الحرب على القيم والأخلاق. لن تنهض هذه المجتمعات إلا من داخلها بعد أن تدرك أن القيم هي عماد الفرد والجماعة وأنّ العدل أساس العمران وأنّ التربية والتعليم هما الحصن الأخير أمام خناجر القتلة والمجرمين وأنّ أولّ شروط السلم الاجتماعي هو الإطاحة برأس الإجرام ومنظومته التي لا تعيش إلا داخل ثقافة الموت.