قضايا وآراء

الناتو.. نقطة تحول

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600

في عام 1997، عقد حلف شمال الأطلسي (الناتو) قمة في العاصمة الإسبانية مدريد، وصفت آنذاك بالتاريخية، بسبب توسع الحلف شرقا بانضمام بلدان الشرق الأوروبي إليه.

يعيد التاريخ محطته مرة أخرى في مدريد، لكن هذه المرة وفق معطيات استراتيجية مختلفة تماما، وإن كان العنوان واحدا (موسكو).

قبل خمسة وعشرين عاما، كان توسع الناتو شرقا تعبيرا عن ضعف استراتيجي روسي، أما اليوم فإن ترسيخ القوة العسكرية للحلف شرقا، يأتي تعبيرا عن مخاوف غربية من القوة الروسية ورغبتها الجامحة في الهيمنة على محيطها الإقليمي ـ القومي.

مرحلة جديدة

لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، يقوم الناتو بوضع تصور ومقاربة استراتيجية للتعامل مع روسيا ـ بوتين، تضمنت رفع عديد القوات العسكرية في بلدان شرق أوروبا من أربعين ألف عسكري إلى أكثر من ثلاثمئة ألف عسكري، مع معدات ثقيلة ومتطورة، ضمن استراتيجية دفاع استباقية، تُعرف باسم الردع من خلال المنع، من شأنها أن تمنع موسكو مستقبلا من التفكير بإعادة التجربة الأوكرانية مرة ثانية في بلدان أخرى.

لا يتعلق التحول الاستراتيجي بنشر قوات عسكرية كبيرة على حدود روسيا فحسب، بل باعتبار روسيا التهديد الرئيس لأعضاء الحلف، بعدما كانت قبل أكثر من عقد من الزمن، في موضع أراد الناتو حينها عقد شراكة استراتيجية معها، وفق الرؤية التي نشرها الحلف عام ألفين وعشرة للتهديد الأكثر خطورة للأمن الأوروبي.

إن تعميم اعتبار روسيا العدو الرئيس للمنظومة الغربية، دفع الحلف للموافقة على دعوة فنلندا والسويد الانضمام للناتو، بعد نحو قرنين من الحياد، في منطقة يتكرر فيها صراع التاريخ والجغرافيا.

إنه مؤشر هام على تغير الذهنية الاستراتيجية تجاه روسيا في عموم أوروبا بالكامل، ومؤشر على انتهاء ما تبقى من إرث تفاهمات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي جعلت من فنلندا دولة محايدة عام 1948.

ورغم انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995، إلا أن فنلندا آثرت الحياد العسكري، بحكم موقعها الجغرافي الخاص، حيث تبلغ حدودها مع روسيا الدكتاتورية نحو ألف وثلاثمئة كلم.

 

إن تعميم اعتبار روسيا العدو الرئيس للمنظومة الغربية، دفع الحلف للموافقة على دعوة فنلندا والسويد الانضمام للناتو، بعد نحو قرنين من الحياد، في منطقة يتكرر فيها صراع التاريخ والجغرافيا.

 



لكن التحول الأكبر جاء من قبل السويد، فهذه الدولة التي حافظت منذ نهاية القرن الثامن عشر، فيما عرف آنذاك بفترة الحروب النابليونية، على الحياد العسكري.

غير أن المقاربة الاستراتيجية الجديدة، لا تخفي التباين بين أعضاء في الناتو يسعون إلى إبقاء روسيا دولة منبوذة، وآخرون يرون أن أوروبا ستضطر في النهاية إلى التعامل معها.

وأيا ما كان هذا التباين وحدوده في المستقبل، فإن أعضاء حلف شمال الأطلسي أرادوا التأكيد في هذه المرحلة على أن أدوات الضغط العسكري أصبحت ضرورة ملحة لاحتواء روسيا، دون أن يقود ذلك إلى مواجهة عسكرية معها.

وتلك مسألة تتطلب تحديد الدول التي يتوجب على الناتو نشر قوات عسكرية فيها، بما لا يؤدي إلى إجبار موسكو على رد عسكري، كحالتي فنلندا والسويد.

الصين

كان الإرهاب التهديد الأبرز والأساسي في المقاربة الاستراتيجية للناتو عام 2010، في وقت استبعدت هذه المقاربة آنذاك أي تهديد عسكري تقليدي لدول الناتو.


ومن هنا، كان مفهوما إدراج روسيا في المقاربة الجديدة كتهديد مباشر لدول الناتو، بعد غزو روسيا لأوكرانيا وتهديد الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي.

لكن، إدراج الصين في مقاربة الناتو الاستراتيجية كان مفاجئا، فلم تعد الرؤية الاستراتيجية الجديدة للحلف مرتبطة بالحدود الجغرافية، بقدر ما هي مرتبطة بتحديات مستقبلية.

تشير الوثيقة الإستراتيجية الى أن التهديدات لمصالح الحلف وأمنه وقيمه تتأتى من الطموحات المعلنة لجمهورية الصين الشعبية، ومن قيام الصين باعتماد مجموعة واسعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية لزيادة وجودها العالمي وإظهار القوة.


يشير إدخال الصين في دائرة التهديدات الرئيسية في مقاربة الناتو الاستراتيجية إلى أربعة أمور:

1 ـ أن الولايات المتحدة ما تزال هي المايسترو الرئيس في الناتو، وأنها استطاعت فرض مخاوفها من الصين ضمن الهواجس الأوروبية.

2 ـ أن دول الاتحاد الأوروبي ما تزال بالمقابل غير قادرة إلى إصدار موقف قومي استراتيجي موحد.

3 ـ حضور الشركاء الأربعة للحلف في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (أستراليا، نيوزيلندا، كوريا الجنوبية، واليابان).

إن مشاركة اليابان تعتبر في غاية الأهمية للمقاربة الأمريكية المستقبلية، لأنها ستكون في قلب المواجهة الاقتصادية مع الصين.

4 ـ على الرغم من الخلافات الكبيرة بين الصين وروسيا، والتي تحول دون حدوث تحالف استراتيجي بينهما، فإن إدراج الصين إلى جانب روسيا في مقاربة الناتو، سيدفع بكين وموسكو إلى التعاون في آسيا وتخومها.

لا شك أن الاستراتيجية الجديدة للناتو، ستعيد تقسيم العالم من جديد بين الشرق والغرب، وستكون منطقة الشرق الأوسط جزءا أساسيا من هذا التقسيم، وستُظهر زيارة بايدن للمنطقة الأهمية الكبيرة للدول العربية، وخصوصا دول الخليج، فهل يستطيع العرب استغلال هذا الوضع العالمي الجديد لصالحهم؟ لا تشير المعطيات الحالية إلى ذلك.

* كاتب وإعلامي سوري


التعليقات (0)