هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
غالبا ما يصاحب المناسبات الدينية الموسمية جدل
ديني، يتمحور حول اختلاف العلماء في بحث بعض المسائل المتعلقة بها وتقريرها، والحج
عبادة سنوية، من أعظم أعمالها الوقوف بعرفة، الذي يُستحب فيه الإكثار من الذكر
والاستغفار والدعاء، للحاج وغيره، ويُسنّ لغير الحاج صيامه كما ورد في حديث نبوي
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وكما يحدث في كل عام، فإن الجدل يتجدد حول فضل
صيام يوم عرفة، تبعا لتصحيح الحديث الوارد في ذلك وتضعيفه، والذي قال فيه عليه
الصلاة والسلام حينما سئل عن صوم يوم عرفة "يكفر السنة الماضية
والباقية"، وفي رواية أخرى "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله،
والسنة التي بعده".
الداعية السعودي، المدير العام السابق لهيئة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة، أحمد الغامدي استرجع في تغريدة له
على تويتر، ما قاله في مقال سابق نُشر في صحيفة (عكاظ) عام 2013، من تضعيف حديث
صيام يوم عرفة، فالحديث عنده "منقطع الإسناد، ومنكر المتن، ويخالف حديث عقبة
بن عامر".
وذكر الغامدي أن حديث صيام يوم عرفة أعله
البخاري بالانقطاع بين عبد الله بن معبد الزماني وأبي قتادة (راوي الحديث)، وبوب
بابا عنوانه (باب صوم يوم عرفة)، قال الحافظ ابن حجر: "أي ما حكمه، وكأنه لم تثبت
الأحاديث الواردة في صومه.. وجزم العيني في العمدة بأن أحاديث الترغيب في صوم يوم
عرفة لم تثبت عند البخاري".
وعن نكارة متن الحديث، بيَّن أن قوله (غفر له
سنة أمامه، وسنة بعده) فيه ما يجرئ المكلف على المعاصي في المستقبل، ولم تثبت
مغفرة ما تأخر من الذنوب إلا لرسول الله ولأهل بدر، ومن جهة أخرى أن ما فيه من
الفضل مع كونه يوم نفل أعظم مما في صيام رمضان وهو فرض، وقد قال فيه النبي: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" فالفضل مقتصر فيه
على غفران ما سلف، ولم يذكر فيه مغفرة ما يستقبل منها.
وأكد الغامدي في مناقشاته للمعلقين والمعترضين
عليه أن ما بينه "ليس فيه تشكيك في فضائل الأعمال المشروعة، بل فيه بيان ما
لم يثبت عن الرسول، بل ويخالف هديه، ويشرعن صيام يوم عيد والأعياد يحرم
صيامها" مشيرا إلى الحديث الذي رواه عقبه بن عامر "يوم عرفة، ويوم
النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب".
من جهته أوضح أستاذ الحديث النبوي وعلومه
بجامعة مؤتة الأردنية، الدكتور محمد سعيد حوى أن اختلاف الإمامين البخاري ومسلم في
الحكم على الأحاديث يرجع إلى اختلاف شروطهما في قبول الرواية، فالبخاري يشترط
المعاصرة واللقيا بين الرواي وشيخه، أما الإمام مسلم فيشترط المعاصرة مع إمكانية
اللقيا.
وأضاف: "فالاختلاف بينهما في قبول الرواية
هو من باب اختلاف النظريات النقدية الحديثية، فحديث صيام يوم عرفة صحيح عند الإمام
مسلم، لكن الإمام البخاري أعله بالانقطاع بين عبد الله بن معبد الزماني وبين أبي
قتادة، بقوله: لا نعرف سماعه، يعني ابن معبد من أبي قتادة".
وتابع لـ"عربي21": "فمعرفة شروط
أئمة الحديث في قبول الرواية وردها مهم جدا، فثمة أحاديث كثيرة أخرجها مسلم في
صحيحه على شرطه، وهي من الأحاديث الصحيحة والمقبولة عند جماهير المحدثين والعلماء،
ومن المعمول بها، ولم يخرجها البخاري، لعدم تحقق شروطه وتوافرها فيها".
ونبّه حوى على أهمية فهم ما جاء في رواية صيام
يوم عرفة على وجهه الصحيح بخصوص تكفير "السنة الباقية"، وهذه أصح روايات
الحديث وأدق ألفاظه، فهي لا تعني سنة كاملة، بل عدة أيام وهي المتبقية من شهر ذي
الحجة آخر شهور السنة الهجرية، فالأحاديث لا تؤخذ على ظاهرها، بل لا بد من جمع
الأدلة جميعها لفهم الدلالة الصحيحة، خاصة فيما يتعلق بتكفير الذنوب
والمعاصي.
ولفت إلى أن تكفير الذنوب الوارد في
الحديث إنما يُحمل على صغائر الذنوب واللمم منها، كما جاء في حديث نبوي آخر
"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا
اجتُنبت الكبائر".
بدوره أوضح الباحث الشرعي والداعية الأردني،
عبد الفتاح عمر أن الإمام البخاري لم يخرج حديث أبي قتادة في صيام عرفة، في باب
(صوم يوم عرفة) لأنه ليس على شرطه، ناقلا عن الحافظ ابن حجر قوله "أي: ما
حكمه؟ وكأنه لم تثبت الأحاديث الواردة في الترغيب في صومه على شرطه، وأصحها حديث
أبي قتادة "أنه يكفر سنة آتية، وسنة ماضية" أخرجه مسلم وغيره".
وأردف: "وذكر ابن حجر في شرحه لحديث
البخاري.. عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن
وهو واقف على بعيره فشربه.. وهذا يشعر بأن صوم يوم عرفة كان معروفا عندهم معتادا
لهم في الحضر، وكأن من جزم بأنه صائم استند إلى ما ألفه من العبادة، ومن جزم بأنه
غير صائم قامت عنده قرينة كونه مسافرا، وقد عُرف نهيه عن صوم الفرض في السفر فضلا
عن النفل".
وردا على سؤال "عربي21" بشأن ما أثير
حول الحديث من إشكالات سندا ومتنا، قال عمر: "الحديث بالفعل فيه إشكالات من
حيث السند والمتن، وأنا أميل إلى ما قاله البخاري، من الانقطاع بين معبد وأبي
قتادة، أما المتن فكيف يكون صيام يوم واحد يكفر سنة آتية، مع أن شهر رمضان بكامله،
وصيامه فرض لم تكن له تلك الفضيلة؟".
وتابع: "أما بخصوص الأعمال الصالحة التي
تكفر الذنوب، فإنما تكفر الصغائر منها، لأن كبائر الذنوب تحتاج إلى توبة خاصة،
ونقل عن ابن رجب في جامع العلوم والحكم قوله: "ولو كانت الكبائر تقع مكفَّرة
بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل
بالإجماع.. وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار
إذا أتى الفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل".
بدوره ذهب الباحث السوري المتخصص في النقد
الحديثي، الدكتور عداب الحمش إلى تضعيف حديث صيام يوم عرفة، ذاكرا أنه ليس لراوي
الحديث معبد الزماني في الكتب الستة سوى هذا الحديث الواحد، وله رواية مقطوعة عند
مسلم، على عبد الله بن عتبة المسعودي، في سبب نزول آية".
وتابع في منشور عبر صفحته على الفيسبوك: "فيكون
حكمي على الحديث؛ أنه حديث فرد مطلق غريب لا يُعرف إلا من حديث عبد الله بن معبد
الزمّاني عن أبي قتادة، تفرد به عنه غيلان بن جرير، وإسناده ضعيف؛ لأنه منقطع،
ولتفرد هذا الزمّاني به، دون سائر أصحاب أبي قتادة المعروفين بالرواية عنه، ناهيك
عن وجود إشكالات كثيرة في متنه".
واستدرك الحمش بقوله: "لكن ليس معنى هذا؛
أنه لا يجوز صوم يوم عرفة، بل يجوز صومه للحاج وغير الحاج، إنما من دون اعتقاد أنه
يكفر ذنوب سنة أو سنتين، أو يوما أو يومين".
ويُذكر أن جماهير العلماء يرون استحباب صيام
يوم عرفة لغير الحاج، كما ذكر ذلك وقرره الإمام النووي في كتابه (المجموع شرح
المهذب) بقوله: "ويستحب لغير الحاج صوم يوم عرفة لما روى أبو قتادة قال: قال
رسول الله صلى الله وعليه وسلم: صوم يوم عاشوراء كفارة سنة، وصوم يوم عرفة
كفارة سنتين، سنة قبلها ماضية، وسنة بعدها مستقبلة".