لم يكن مقتل الطالبة الجامعية
المصرية نيرة أشرف على يد زميلها محمد عادل في 20 حزيران/ يونيو الماضي الحادث الأخير داخل حدود حرم الجامعات العربية، فقد تلاه بعد ثلاثة أيام حادث آخر لكن في "جامعة العلوم التطبيقية" الأردنية، إذ قُتلتْ الطالبة إيمان إرشيد على يد شاب ليس من طلبة الجامعة هذه المرة. وكان الشاب قد هدد الفقيدة بمصير نيرة فلما لم تستجب له، قام بإطلاق خمس رصاصات عليها إحداها بالرأس، ثم لاذ بالفرار حتى أطلق النار على نفسه بعدها بأيام قليلة وفق ما هو معلن ومعروف.
أما عن نيرة فقد اعتادت مطاردة زميلها بالفرقة الثالثة من "كلية الآداب" في "جامعة المنصورة" ومحبته لها من طرف واحد، فلما أعيته الحيلة بادر بتسديد طعنات قاتلة لجسدها، قبل أن ينحرها أمام الحرم الجامعي ويلقي المارة القبض عليه.
وفي الحالتين فقدنا فتاتين في عمر الزهور وشابين كان من الممكن أن يكونا نافعين، بالإضافة إلى تنامي إشكالية العنف المجتمعي المتكرر، خاصة التغير المرير الذي يخبرنا بأن مشاعر
الحب والود الصادقة التي عرفناها بمقتبل الشباب، فدفعتنا والملايين من الصادقين والجادين في رغبتهم بخدمة الأمة إلى متابعة الدراسة ومحاولة التفوق لإثبات الجدارة بالمحبوبة والأهلية لبناء أسرة وعائلة مستقرة تواصل المسيرة نحو النهضة وإعادة بناء الأوطان.. تلك المشاعر اعتراها تبدل وتحول (بدرجات) لرغبة جارفة في الامتلاك الجسدي، والعشق الظاهري الحسي الذي يدفع صاحبه إلى عدم تخيل ارتباط المحبوبة بآخر، ولو أدى الأمر للتخلص منها وملاقاته مصير مأساوي.
منذ قديمٍ عرفت أمة العرب قصص الحب الجارف والمحبة المتأججة التي تنتهي بزواج الحبيبة بغير محبوبها العاشق المتيم، وكانت أشهرها قيس وليلي، وقد ارتضى الأول فيها الشتات والحياة المتشرة، بل محاولة رصد هناءات الحبيبة مع زوج غيره دون اعتراض أو مجرد مواجهة سلبية لها أو له، وعلى نفس الدرب سار جميل في محبته لبثينة، وكثير مع عزة وهلم جرا. ولأن المحبة في هذه الحالات وغيرها كانت سامية تعرف طريقها للروح فلم تهتم بالجسد ولا التفاصيل الصغرى المخجلة، إذ كانت أغلب هذه القصص في البادية، فما بالنا في الحضر الآن وراقي دور العلم الجامعي نشهد النقيض تماما؟!
فمما يذكر في هذا السياق أن القتل في حرم جامعة عريقة مثل "القاهرة" عُرِفَ منذ نحو 30 عاماً، وفي كلية "دار العلوم" العريقة المعنية بدراسة قصص الحب العذري، وبين طالب أحب زميلته فلما لم تجد لديه مقدرة لخطبتها ارتبطت بغيره فكان أن قضى عليها، على أن مثل الحادثة الأخيرة كان قليلاً غير طافٍ أو ظاهر على سطح الحياة التعليمية في مصر أو غيرها، فلماذا تغيرت الأحوال؟
تدخل النائب العام المصري المستشار حمادة الصاوي بسرعة (على غير العادة)، فحوّل طالب المنصورة القاتل للجنايات بسرعة خلال أيام قليلة من الجريمة، وأتاح للإعلاميين حضور الجلسة وتصويرها، فكان أن جلس الشاب القاتل أمام القاضي في 26 حزيران/ يونيو الماضي على كرسي بملامح مرهقة يبدو عليها السهاد الطويل، وبكلمات متلعثمة لكن عن ذاكرة قوية وحجة واضحة، فيما حرصت منصة
القضاء على أن يكون أمامها بلا قيد، وأتاحت له الماء ليشرب أكثر من مرة والمناديل ليجفف عرقه. وخاطبه القاضي في أول جلسات محاكمته بكلمات رقيقة، يبدو فيها ظاهر الحياد وعدم الحرص على الإدانة رغم اعتراف الشاب الواضح بجريمته، فكان أن رُوِعَ الملايين الذين تابعوا المحاكمة عبر بث المواقع الإلكترونية من جرأة القاتل في تبرير فعلته، بل تماديه في محاولة تصوير نفسه على أنه ضحية للراحلة وطموحها؛ وغير ذلك من الحجج والمبررات التي كانت جديرة -إن صحت- بدفع القاتل للابتعاد عن طريق الفتاة المجني عليها بدلاً من ذبحها لكي لا تكون لغيره، قاطع القاضي تلك المحاولة من الشاب في التمادي بتحميل المسئولية لأسرة الراحلة قائلاً: "دع هذا الأمر الآن!"، ولكن الرسالة وصلت لمئات الآلاف من الآباء والأمهات واضحة تخبرهم بأن التدليل المبالغ والاستجابة لجميع طلبات الأبناء لا تؤدي إلا إلى الاتكالية والطيش والتنصل من كل مسئولية لدى بعض متهوري الأبناء على الأقل.
ترحم بعض متابعي الجلسة على فتاة المنصورة وتوقعوا حكماً رادعاً نطق به القاضي بعد أيام قليلة جداً من أول جلسة؛ بإحالة أوراق المتهم إلى المفتي، في محاولة لمنع تكرار الجريمة ببشاعتها وعلانيتها، وحتى إن تم نقض الحكم الابتدائي الجنائي. وفي 6 تموز/ يوليو حُكِمَ عليه بالإعدام في أول درجة، في أسرع حكم في تاريخ محكمة الجنايات المصرية، لكن مع توقع نقض الحكم وانطلاق مقولات تحمل تعاطفاً مع القاتل، ووصل الأمر إلى حد القول بأن هناك أصحاب أموال سيكلفون محامياً شهيراً ومحامين آخرين بالدفاع عن القاتل أو إعداد مذكرة بذلك، وهو ما يعبر عن تغير في المجتمع المصري والعربي بوجه أعم.
وقد قيل في محاولة "الحشد" للنقض وتخفيف الحكم على القاتل كلام كثير، منه أن الأمر يخص بـ"التبعية" الحكم على المستشار نائب رئيس مجلس الدولة المصري الذي أُعلن عن اكتشاف قتله زوجته الإعلامية الموالية للنظام في نفس يوم قتل عادل لنيرة أشرف، ومع كثرة المقولات وتوزعها لا يجعلنا هذا نتناسى أن كثيراً من المصريين -خاصة المناضلين الشرفاء في سبيل حرية وطنهم- نظروا بألم وشجن لمعاملة القاضي لقاتل معترف بجريمته، وما شاهدوه من حقوق للجاني لديه، مما ذكرهم بقضاة آخرين يستخفون بمتهمين أبرياء ينكرون الاتهامات الجنائية وإن اعترفوا بعدم موافقتهم للنظام، فيروح قضاة "مسيسون" يكيلون لهم الأحكام من السجن المؤبد حيناً حتى الإعدام، مع استمرار مدد الحبس الاحتياطي دون حد زمني، وحرمان من أبسط الحقوق التي كفلها القانون بل الدستور الذي وضعه نظام الحكم نفسه.
تذكر مصريون كثيرون في داخل البلاد وخارجها الظلم الواقع على نحو 65 ألفاً من المعارضين وسجنهم بأحكام تجمع العشرات منهم أحياناً، وتركهم بمراكز الاعتقال والاحتجاز حتى ليتوفى منهم أكثر من ألف نتيجة الإهمال الطبي وعدم الاستجابة لطلبات علاجهم البالغة الضرورة.
وبين سجن الأبرياء ومشقة حياتهم خارجها يبقى أن تغيرات قاسية تجري على المجتمع المصري تدفع شباباً يتزايد عددهم للانتحار، حتى لتناشدهم النيابة في 21 حزيران/ يونيو الماضي عدم "الانخداع بمكر الشيطان لهم"، دون أن تنتبه إلى أن انسداد أفق الحياة بجميع درجاته ومستوياته أمامهم هو الدافع الأول لتخلص عدد منهم من حياته يومياً. فالواسطة والمحسوبية وتبادل المصالح بطريق غير شرعي هو سبيل الصعود والترقي المجتمعي، مع عتمة أفق الترقي التعليمي أو الاكتفاء بالمجهود الشخصي، إلا قليلاً.
وهكذا فمع السعار المادي وازدحام وقسوة الحياة وغلائها تزداد مشاعر القسوة والقنوط والرغبة في التخلص من الحياة وكراهية الآخرين، فكيف يمكن أن يحيا الملايين في أمان وسلام في مصر وغيرها من بلاد للعرب (وإن اختلفت التفاصيل)، وكيف تستقيم الحياة مع استشعار فقدان معاني العمل والاجتهاد والحلم بتغيير الغد أو مجرد الراحة فيه، مع استمرار منظومة الديكتاتورية المحبة للظلم؟!