بعيدا
عن الأزمة السياسية المعروفة منذ 25 تموز/ يوليو 2021، تستعد أجهزة الدولة
التونسية إلى تنظيم الاستفتاء في وضع اقتصادي خطير ومفتوح على ممكنات كارثية؛ ليس
أخفّها الخضوع لإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة أو الذهاب إلى نادي باريس لتجنب
إعلان الإفلاس. فتونس تحتل المرتبة الثالثة في قائمة البلدان التي تتوقع المؤسسات
البنكية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني أن تتخلف عن سداد ديونها. وقد بلغت
نسبة التضخم 8.1 في المائة، أما عدد من يعيشون في ظل أوضاع
هشة حسب المقياس الأممي (أقل من 5.5 دولارات يوميا) فيُمثلون 9 .18 في المائة من عدد السكان. ويبلغ عدد الأُميين 17.7 في المائة، أي ما يقارب مليوني مواطن. إننا
أمام أزمة مركبة (سياسية- اقتصادية-اجتماعية) زادتها الحرب الروسية الأوكرانية
استفحالا.
ولا
يعني ما تقدم أننا نعتبر نظام الحكم الحالي بقيادة الرئيس قيس سعيد هو المسؤول عن
هذا الوضع الكارثي، ولكننا نعتبر أن الإجابة التي قدمها (تصحيح المسار والتأسيس
الجديد) لم تكن هي الإجابة المناسبة للخروج من الأزمة. فإذا كان كل التونسيين
تقريبا يتفقون على وجود مأزق سياسي كبير قبل 25 تموز/ يوليو الماضي (هو مأزق بنيوي ذو تجليات دورية ترتبط بالنظام السياسي وبالعقل
السياسي الذي هيمن عليه منذ المرحلة التأسيسية)، وإذا ما كانوا يتفقون أيضا على بؤس
المحصول الاقتصادي والاجتماعي للنخب الحاكمة والمعارضة خلال عشرية كاملة، فإنهم
يختلفون في تعيين أسباب هذا الوضع وفي مقترحاتهم لتجاوزه.
إذا كان كل التونسيين تقريبا يتفقون على وجود مأزق سياسي كبير قبل 25 تموز/ يوليو الماضي (هو مأزق بنيوي ذو تجليات دورية ترتبط بالنظام السياسي وبالعقل السياسي الذي هيمن عليه منذ المرحلة التأسيسية)، وإذا ما كانوا يتفقون أيضا على بؤس المحصول الاقتصادي والاجتماعي للنخب الحاكمة والمعارضة خلال عشرية كاملة، فإنهم يختلفون في تعيين أسباب هذا الوضع وفي مقترحاتهم لتجاوزه
ورغم
أن الرئيس قيس سعيد كان يحمل "الإجابة" منذ أن طرح مشروع "التأسيس
الجديد" سنة 2011 وأعاد تقديمه سنة 2013 (أي إنه كان يحمل "بديلا" منذ الأيام الأولى لمسار الانتقال الديمقراطي
ولا يعتبر نفسه "شريكا" للنخب الحاكمة أو المعارضة)، فإنه قد أراد شرعنة
تلك الإجابة -بصورة بعدية- وربط ما قام به بمطلب شعبي ملحّ؛ مُخفيا أنه قد جاء إلى
قرطاج ببديل سياسي جاهز منذ رحيل المخلوع، كما حاول الرئيس شرعنة "مشروعه
السياسي" باعتباره تصحيحا لمسار "الإرادة الشعبية" التي تلاعبت بها
"الأجسام الوسيطة" المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية وعلى النظام
البرلماني المعدّل، وزيّفتها بتوافقاتها وتسوياتها وهيئاتها
الدستورية التي لم
يستفد منها الشعب شيئا.
مهما
كان الجدل الذي أثاره تأويل الرئيس للفصل 80 من الدستور (تجميد البرلمان، رفع الحصانة عن النواب، حل الحكومة، الجمع بين
السلطتين التنفيذية والتشريعية على خلاف منطوق الفصل ذاته)، فإن الكثير من
التونسيين قد تعاملوا مع إجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو الماضي باعتبارها قرارات "تصحيحية" ضرورية بحكم تعذر عملية الإصلاح
الذاتي للمؤسسات. ولذلك تمتع "تصحيح المسار" في أيامه الأولى بدعم
شعبي كبير، بالإضافة إلى مساندة أغلب الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والهيئات
المهنية والدستورية التي غضّت الطرفَ عن الإشكالات الدستورية التي تثيرها مراسيم
الرئيس، وصدّقت أن البلاد تعيش فعلا "حالة استثناء"، لا اللحظة الأولى
في مرحلة انتقالية هدفها "التأسيس الجديد".
حتى
قبل صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر من السنة الماضية (وهو المرسوم الذي يمكن اعتباره الدستور الحقيقي
لمنظومة الحكم)، كان الرئيس قيس سعيد قد أظهر أنه لا ينوي إدارة المرحلة بمنطق
تشاركي أو حواري. كما أظهر موقفه الحقيقي من "الأجسام الوسيطة" برمّتها عندما
رفض كل مقترحاتها، بما فيها تلك المقترحات الصادرة عن "أنصار تصحيح
المسار"، أي عن أولئك الذين يتقاطعون معه في رفض العودة إلى ما قبل 25 يوليو/ تموز وفي العداء المعلن لحركة النهضة
وحلفائها.
أكد فشل الاستشارة أن الرئيس لا يهتم كثيرا بشعبيته القابلة للضبط والإحصاء بعيدا عن ادعاءاته الذاتية بتمثيل الإرادة الشعبية، ولكنّ فشل الاستشارة أكد أيضا أن المعارضة ليست قادرة -بتركيبتها أو برموزها أو بأطروحاتها الحالية- على أن تقنع الشعب أو القوى الدولية المؤثرة في الشأن التونسي بأنها بديل ممكن للمنظومة الحالية
لقد
كان الرئيس يدير حالة الاستثناء بمنطق المرحلة الانتقالية أو التمهيدية للتأسيس
الجديد الذي يلغي الحاجة للأجسام الوسيطة كلها، وهو ما أكده عندما أعلن عن خارطة
الطريق للخروج من حالة الاستثناء (الاستشارة الوطنية الإلكترونية، الاستفتاء،
الانتخابات البرلمانية المبكرة بالدستور الجديد وبنظام انتخابي جديد).
قد
يستغرب المتابع للشأن التونسي من إصرار الرئيس على استكمال خارطة الطريق التي
وضعها، رغم فشل الاستشارة الإلكترونية التي لم يبلغ عدد المشاركين فيها عدد من
انتخب السيد قيس سعيد في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية. ولكنّ هذا الاستغراب
سيرتفع إذا ما طرحنا السؤال التالي: ما الذي تغير في واقع المعارضة أو في قدراتها التفاوضية
رغم فشل الاستشارة؟ لقد أكد فشل الاستشارة أن الرئيس لا يهتم كثيرا بشعبيته
القابلة للضبط والإحصاء بعيدا عن ادعاءاته الذاتية بتمثيل الإرادة الشعبية، ولكنّ
فشل الاستشارة أكد أيضا أن المعارضة ليست قادرة -بتركيبتها أو برموزها أو
بأطروحاتها الحالية- على أن تقنع الشعب أو القوى الدولية المؤثرة في الشأن التونسي
بأنها بديل ممكن للمنظومة الحالية. وهو واقع استفاد الرئيس منه لتمرير دستوره
الشخصي ورفض مشروع الدستور الذي قدمه حلفاؤه بعد حوارهم "الوطني" على
قاعدة مخرجات الاستشارة الوطنية الإلكترونية.
بصرف
النظر عن عدم حيادية هيئة الانتخابات المعينة للإشراف على الاستفتاء، وبصرف النظر
عن سوء سمعة "الهايكا" منتهية الصلاحية منذ 2019 (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري)، يبدو أن قراءة الرئيس للمشهد
السياسي الداخلي ولحقيقة المواقف الدولية بعيدا عن بيانات "القلق
الشديد"؛ هي ما يجعله يمضي في خارطة الطريق التي وضعها دون أن يخشى المراهنة بمستقبله
السياسي.
الرئيس واثق من البقاء في السلطة مهما كان عدد المشاركين في الاستفتاء، وذلك لعجز القوى المعارضة عن تغيير منطق الأمر الواقع بحكم تشتتها وعمق خلافاتها البينية غير القابلة للتسوية، على الأقل في المدى المنظور
فالرئيس
لم يطرح أبدا فرضية فشل الاستفتاء (فهو يعلم أن أغلب القوى المعارضة ستقاطعه
وسيشارك فيه أساسا من سيصوتون بـ"نعم")، كما أنه لم يربط شرعية النتائج
بسقف عددي معين (مثلا مشاركة نصف المسجلين في الانتخابات -أكثر من تسعة ملايين ناخب- أو حتى ثلثهم أو ربعهم). وهو
ما يؤكد أن الرئيس غير معني واقعيا بإثبات شرعيته الشعبية، ويؤكد أيضا أن الرئيس
واثق من البقاء في السلطة مهما كان عدد المشاركين في الاستفتاء، وذلك لعجز القوى
المعارضة عن تغيير منطق الأمر الواقع بحكم تشتتها وعمق خلافاتها البينية غير
القابلة للتسوية، على الأقل في المدى المنظور.
يبدو
موقف أغلب القوى المعارضة الرافضة للمشاركة في الاستفتاء موقفا مشروعا، فالمشاركة
تعني الاعتراف بـ"الانقلاب" وبخارطة طريقه، وإضفاء نوع من الشرعية
عليها. ولكن لنفترض العكس، أي لنفترض جدلا -أو اعتباطا- مشاركة كل القوى المعارضة
في الاستفتاء وإسقاطه. هل يعني ذلك أن المعارضة التي نعلم عمق خلافاتها الأيديولوجية
وسوء سمعة أغلب ممثليها ستنجح في تقديم مشروع وطني يتلقاه عموم المواطنين بالقبول،
ويكون تجاوزا جدليا لبؤس التوافق والتسويات اللا وطنية
التي حكمته من جهة أولى، ولمشروع الحكم الفردي ونوازع الانقلاب من جهة ثانية؟
إنه
السؤال الذي ينبغي على النخب بمختلف منحدراتها الأيديولوجية وكياناتها الحزبية
والمدنية والنقابية أن تفكر فيه بعيدا عن المزايدات السياسوية والأيديولوجية
الفارغة، ولكننا نراه سؤالا "مؤجلا" قد يأتي جوابه بعد أن توقن كل
الأجسام الوسيطة بأن مشروع الرئيس الأساسي (بل مشروع من يقف خلفه داخليا وخارجيا)
هو إلغاء الحاجة إليهم جميعا، وخلق واقع سياسي جديد ينتهي بفرض إملاءات الجهات
المانحة/ الناهبة والالتحاق بمحور التطبيع وصفقة القرن.. ولو بعد حين.
twitter.com/adel_arabi21