هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كنت أتحاشى الكتابة عن المؤسسة العسكرية وأحجم نفسي عن انتقادها لقناعتي، الراسخة بأنها السد منيع لحماية تونس حال انزلاقها في عالم الفوضى، لكن انجرافها في مسلك تقويض الدولة بقيادة قيس السعد وفي المسار الحتمي نحو الفوضى، ثم تدخل الغريب في الشأن العام، خاصة توجيه أصابع الاتهام إليه، أطلق عنان قلمي لعلنا ننصح قبل فوات الأوان، رغم أني كتبت عن الجيش بعد الانقلاب بأيام أذكره فيه بواجبه المدني الجمهوري.
اقرأ أيضا الجزء الثاني: الجيش التونسي بين الواقع والمنشود (2)
قد تكون المؤسسة العسكرية التونسية المؤسسةُ الأقل
انخراطا في الشأن السياسي الداخلي من بين المؤسسات العسكرية العربية، إلا أنها
وجدت نفسَها أمام تحديات مستحدَثة فرضتها تداعيات ما يُعرَف بـ"الربيع
العربي"، ليصبح الجيش التونسي يواجه تحديا جديا بين الإبقاء على دوره
المدني الجمهوري أو الانزلاق، ليصبح فعليا طرفا سياسيا فاعلا في تونس.
كما ازدادت ثقة التونسيين بالمؤسسة العسكرية التونسية
في العشرية الأخيرة؛ بسبب حرص المؤسسة على اتخاذ موقف حيادي، وعدم التدخل في شؤون
الحكم، مكتفية بالمراقبة واحترام الشرعية والدستور والانتخابات، ما عزّز الفكرة
السائدة عن الدور الحيادي للجيش في الحياة السياسية.
لكن السمعةَ التي اكتسبها الجيش التونسي بعد وقوفه إلى
جانب الشعب المظلوم الثائر على نظام ابن علي وانحيازه لإرادتهم، بدأت تدريجيا في
التآكل في الفترة التي أعقبت صعود قيس سعيد إلى الحكم، حيث أبى إلا الزج به في
معترك الصراع السياسي، ما جعل الجيش يلقى انتقادات واسعة، خاصة بعد اتخاذ قيس سعيد
لما أسماه بـ"الإجراءات التصحيحية، يوم 25 تموز/ يوليو 2021.
دور المؤسسة العسكرية في دعم انقلاب سعيد
لا يختلف اثنان في أنّ القرارات التي اتخذها قيس سعيد
يوم 25 تموز/ يوليو تمّت بمباركة وتنسيق واضح مع شق من المؤسستين العسكرية
والأمنية على الأقل، إضافة إلى بعض الدوائر الخارجية، خصوصا أن القرارات صدرت
عقب اجتماع موسَّع جمع الرئيس وبعض قياداتِ هاتين المؤسستين.
وهذا أكدته أربعة مؤشرات:
الأول: غياب رئيس البرلمان ورئيس الحكومة ووزير الدفاع
ووزير الداخلية، ورئيس أركان جيش البرّ اللواء محمد الغول، وغيره من القيادات الأمنية
على غرار لزهر اللونغو، المدير العام للمصالح المختصة.
الثاني: الانتشار السريع لوحدات الجيش وتمركز آلياتها
العسكرية في محيط البرلمان ومحيط المقر الحكومي بالقصبة.
الثالث: تعهد القضاء العسكري بملاحقة ومحاكمة معارضي
الرئيس من نواب ومحامين وسياسيين وإعلاميين ومدونين.
الرابع: لقاحات كورونا، فالمطلع يعلم أن حكومة المشيشي
هي التي اشترت اللقاحات، وأن الجيش خزنها حال وصولها، ولم يتم استعمالها إلا في
حملات واسعة ومكثفة بعد انقلاب سعيد على المسار الديمقراطي. أزمة عصفت بالبلاد
وأودت بحياة أكثر من 20 ألف تونسي.
هذا الدور السلبي الذي أدته المؤسسة العسكرية، عزز
خشية القوى الديمقراطية من إرادة خفية لبعض قيادات العسكرية لينخرط الجيش الوطني
في اللعبة السياسية، وتخليه عن المبادئ التي تأسس عليها، والتي جعلته مثالا للجيش
المنضبط والحيادي العازف عن الفعل السياسي أو المشاركة فيه.
ما قام به الجيش التونسي بعد انقلاب سعيد جعل لجنة
الاعتمادات في الكونغرس الأمريكي تطالب خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021 (أي بعد
شهرين من الانقلاب)؛ السلطات التونسية بأن تقدم تقريرا لتوضيح ما إذا كان الجيش
التونسي قد ساند وأد الديمقراطية في مهدها في تونس. ثم اتخذ قرارا في شهر نيسان/
أبريل 2022 بتخفيض المساعدات العسكرية لتونس من 112 مليون دولار إلى حوالي 61
مليون دولار، وهو ما يعني إقرارا أمريكيا غير مباشر بانخراط المؤسسة العسكرية
التونسية في مساندة الانقلاب على المسار الديمقراطي، وهو ما أكده وزير الدفاع الأمريكي
"لويد جيه أوستن" خلال حفل تغيير القيادة الأمريكية في أفريقيا، حيث
تعمّد الحديث عن الشأن التونسي في سابقة خطيرة فقال؛ "إن الجيوش يجب أن تؤدي دورها المشروع في الدفاع عن حقوق الإنسان"، مشددا على أنّ "الجيش وجد
لخدمة شعبه لا لإسقاط الحكومات المدنية أو الانغماس في الفساد".
ولئن حاولنا تفهم ما أقدمت عليه المؤسسة العسكرية في
الوهلة الأولى تحت ذريعة عقيدة الانضباط لقائدها الأعلى (الرئيس) بنص الدستور،
وخوفها من زيادة تعفن الأوضاع لتقسيم البلاد انطلاقا من الصراعات داخل البرلمان، وضعف أداء الحكومة والخوف من تغول حركة النهضة التي لم تجد لها منافسا، وربما
فهمها القاصر على أن الحكم الرئاسي أضمن من الحكم البرلماني، إلا أن تمادي
المؤسسة العسكرية الوقوف إلى جانب قيس سعيد في انقلابه، لم يعد له مبرر إلا إذا
اتخذنا -ما ننزه منه جيشنا وما نأبى الميل إليه- كلمةَ "الانغماس في
الفساد" لوزير الخارجية الأمريكي كإيحاء لملفات لا نعلمها كمنطلق.
التحديات المطروحة أمام المؤسسة العسكرية
قام قيس سعيد خلال العام الأول من حكمه بتجريف كل
المؤسسات المنبثقة عن دستور الثورة الذي أجمعت عليه كل القوى السياسية. كما أفسد
سعيد علاقاتنا مع حلفائنا التقليديين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية
لصالح التقرب إلى المحور الروسي- الصيني- الإيراني، إضافة إلى إشعال جو الاحتقان
الداخلي الناتج عن خطابات التقسيم والتخوين، بل وحتى التكفير، التي ينتهجها رئيس
الجمهورية.
وهذا حقا ما يهدد وحدة التونسيين ويمهد لحالة من
الاحتراب الأهلي والانقسام المؤكد، وصولا إلى الفوضى العارمة، مؤشرات بدأت تبرز في
محاولات التنسيقيات المناصرة للرئيس إفساد اجتماعات المعارضة (جبهة الخلاص الوطني
في مدنين وقفصة، وآفاق تونس في سيدي بوزيد، والنهضة في القيروان، والدستوري الحر).
فالإجراءات التي اتخذها سعيد زادت من الدعوات المثبطة
التي تعمل على تلويث مشهد الانتقال السياسي وتزيين أنظمة الحذاء العسكري، عبر
دعوات جزء من الرافضين لانقلاب سعيد من الجيش الوطني التدخل لحماية الديمقراطية. ولكن
يُجمع أغلب الطيف السياسي على ضرورة حياد المؤسسة العسكرية وحماية المؤسسات
الدستورية وعدم المساهمة في تجريفها، والدفاع عن آمال الشعب التونسي في الحرية والتنمية والعدالة، دون إهمال محاولات ضرب المؤسسة العسكرية والاستعاضة عنها بالمليشيات
والتنسيقيات التي أصبحت تحتل مواقع متقدمة في وزارة الداخلية وعددا من الإدارات
الحساسة في الدولة.
وسنتناول في المقالين القادمين الأسباب الحقيقية التي أدت
إلى انقلاب سعيد على الديمقراطية، والمخاطر المحدقة بالجيش التونسي، وسُبل الخروج
من الأزمة بأقل الأضرار الممكنة، والحفاظ على مكانة الجيش التونس التي اكتسبها
خلال العشرية السوداء.
هنيئا لهنيّة والبكاءُ والعويلُ على من أخطأ التقدير وأبت عليه الشهادةُ